مدينة قصر البركة وعاء حضارة وتاريخ منسي.. (تقرير مصور)

أربعاء, 07/11/2018 - 00:34

سنحاول فيما يلي تقديم مدينة "قصر البركة" بين يدي القراء الكرام، لنسترسل ملامح الماضي ونستقرئ بأبعاده قصة شعب وذاكرة أمة خلدها التاريخ على شكل آثار لننفض الغبار عن المهمل أو المنسي في طيات التاريخ الموريتاني العتيق، الزاخر بتعدد تراثه وباختلاف وثراء طيفه العلمي بأشكال فنه وفلسفة هندسته الهائلة، والتي تومئ إلى فترة معينة من الزمان والمكان كانت فيه قصر البركة بنت عصرها.

تراث في الذاكرة، وتاريخ يحكي قصة أمة خلت…!

هكذا يروى سكان المدينة عن مؤسسي قصر البركة التي عرفت العمران الحضري منذ العصر الحجري، وتتباين الروايات بشأن تاريخ تأسيس المدينة واشتقاق اسمها كما سنرى لاحقا.

لقد لعبت المدن التاريخية في بلادنا دورا مهما في نشر العلم الإسلامي والثقافات الأخرى التي تأثرت بها نتيجة الزخم الحضاري، وعبر المحطات والقوافل التجارية، وكذلك أفواج الحجيج، وعلى أنقاض هذه المدن تأسست مدن أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها، فلعبت دورا مهما كقاسم مشترك في تعايش الحضارات وتلاقحها بالعناق الثقافي، ومن هذه المدن - للحصر- مدينة (قصر البركة) التي اندثرت وقامت على أنقاضها مدينة انبيكة حاليا.. الواقعة جنوب مركز مقاطعة المجرية وعلى بعد120 كلم من الولاية تجكجة، وانبيكة هي الربوة التي بنى عليها المستعمر الثكنة العسكرية (القاعدة العسكرية السابعة) الموجودة حاليا في وسط المدينة.

وقد اختارها المستعمر آنذاك نقطة مراقبة مهمة في وسط موريتانيا، لمكانها المطل على مشارف هضبة سلسلة جبال المورتانيد، فهي إذن منطقة مهمة استراتيجيا وخصبة زراعيا ورعويا، إذ تعتمد على الزراعة والنخيل وتحتوي على أكبر رقعة انتاجية وأكثر عدد ديموغرافي.

ميلاد.. وبطاقة تعريف بالمؤسس:

جانب من المدينة تأسست قصر البركة سنة 1697م في القرن (17) أي منذ ما يناهز ثلاثة قرون مضت على يد مؤسسها الطالب سيد امحمد ولد باجد، الذي يعتبر أحد أعلام هذا الوطن لما عرف عنه من صلاح وكرامة وما ترك يستأثر به من علوم ومعارف.

هو الطالب سيد امحمد بن باجد ولد سيد الامين ولد سيد حبيب الله ولد سيد محمد الكنتي الصغير نزيل فركش ولد الشيخ سيد أحمد البكاي الولاتي ولد الشيخ سيد امحمد الكنتي الكبير نزيل فصك ذو النسب المتصل بعقبة بن نافع الفهري، أما لقبه الطالب فهو طالب علم وتعني الشيخ أي (الأستاذ) درس عليه الكثير من التلاميذ الذين جاءوا معه من ولاته خصيصا لتلقي علوم الفقه والقرآن، داخل المدرسة السنية التي سميت على روادها (أهل لكصر) كما يطلق أيضا هذا الاسم على جميع أبناء هذا الشيخ المؤسس، المتفرعين منه كابنيه الامين وأبناؤه عبدي، محمد الصغير، وأحمد بدّ، وأحمد لأبناءه عبدي وامحمد وغيرهم.

والمصادر التي تقول بقدومه تذكر أنه حل بلكصر قادما من وادان المدينة التاريخية تلبية لدعوة والده باجد ولد سيد الامين الذي أمره بالذهاب إلى حيث تكل الإبل ويستريح من السير حداتها حتى يحط حزام رحله (..) وكان ذلك عند بلوغه مكانا يدعى آتيلة الزريدة فجاء حاملا معه أسرته وبعض من تلاميذه.

لكصر.. سبب التسمية:

كان لكصر -وهي تعني بالفحصى (القصر)- قبل هذا الاسم يعرف بعدة أسماء من بينها (احسيْ البارودْ، وقصر ويْلة) وهو الاسم الأصلي الذي اكتشف عليه قبل (الفتح) وقد أطلقه عليه الأفارقة الزنوج آنذاك، ا"لذي تؤول الروايات انهم عمروا المنطقة وقد وجد لهم اثر مع مجيء ببكر بن عامر" ثم سماه المؤسس حين قدومه باسم قصر البركة تيمما منه بطلب العلا والفأل الحسن، وسنلاحظ دور هذا التحسين اللفظي للأسماء التي كانت تعني أعلاما بذاتها وأصبحت شيئا من الازدهار والرقي الحضاري في مجال التقري الذي أراده هذا "الفاتح" لترسيخ أواصر الحضارة الإسلامية والثقافة العربية.

كان التحسين اللفظي لبعض الأسماء الخشنة عبارة عن ترميم فسيفسائي أو مسحي حضاري للطابع الإسلامي العتيق لا مسخ لها، انطلافا من بناء المساجد فالمحاظر.. الخ..

حيث عرفت نشأة المدارس مع بداية هذه المدينة أو القلعة الحضارية ومثال الأسماء التي(حسنت) في عين المكان نجد بعض التسمي مثل "كانت كيره" التي تعني موقع "اكنيكيره" الشهير، و "تشيليت انكبو" التي أصبحت فيما بعد (كبُّ)، و"أحسي البارود" الاسم الأول لـ"قصر البركة".

قام الطالب حين قدومه إلى القصر ببناء المسجد الذي بناه طبق الأصل في تصميم هندسة مسجد وادان، لكن معظم آثاره تهدمت واندثرت بعامل الردم، بيد أن آثاره لا تزال قائمة يمكن مشاهدتها حين زيارة المسجد والآثار القديمة المحيطة به، التي كان الأب الطالب قد بناها حول المسجد وهي حوالي 1047 منزل ساعدته في عملية الهندسة والمعمار هذه التي قام بها أسر من الوافدين معه من بينهم أسرة أهل (أوكال) وغيرهم، الذين أقاموا بناء الجانب الشرقي من المدينة آنذاك..

هذا وعندما توفي الطالب تولى خلافته أحد أبناءه والأرجح أنه أحمد حوالي سنة 1837م فقام ببعض الرتوش على المسجد والترميم حول المدينة… فقام بتوسيع دائرة المسجد الذي كان عبارة عن(21) ذراعا مربعا إلى (100) ذراع واكتفى ببناء المنازل وزاد عدد الدور بعد بناءه لمنزله الذي يقع بجانب المسجد وشيد بعض المنازل الأخرى، وتنسب في عملية استشارته في الترميم والزيادة هذه قصة أبيات طريفة يذكر أنها للشيخ أحمد ولد آدبه وهي:

أباني قصر البركه شيده وابنه

وبلغ تحايانا إلى القصر وأبنه

فذا العالم العلوي راض بناءه

وذا العالم السفلي جنة عدنـــه

الواد المطل نحو لكصر

وتطورت هذه المدينة بسرعة نتيجة للنقل والتجارة، وقد ساعدها اقتصاديا على هذا النمو وجودها ببعض الجيوب الجغرافية الغنية حيث يوجد بها الواد الابيض الذي يمتلئ بمياه الأمطار في فصل الخريف وكذلك خزان كبو الزراعي، إضافة إلى موقعها السياحي الذي يضفي إليها بهاء لا بأس به، وكذلك توجد بها مواقع هامة أخرى مثل خزان "كانكارا" للحبوب الذي يرجع تاريخه إلى أبعد من 2000 سنة، وحوض مطماطا الذي يوجد به عدد كبير من التماسيح البحرية يعيشون منذ آلاف السنين في مياه الأمطار المنثالة من قمم جبال تكانت الشاهقة، وسهول وظراب أوضاة تامورت النعاج خاصة.

واليوم هذه قصر البركة التي لا تزال ماثلة منذ حقب مضت بميتها وحيها وبألوان قصصها ونسج خيال معالمها، مضت بكامل العادات والتقاليد.. لتبقى بالعزم شاهدة على عصرها الفريد بجماله، مدينة آثار بحجرها ومدرها الثمين.. مبررة بذلك بما يتسم عن مصدر الإيمان وقوته صنع الله الذي أتقن كل شيء لتبقى بآثارها محفورة في صميم التاريخ، وقلعة حضارة لا تزال شامخة المعالم بارزة الوجنات، ورمزا للمامنعة والتحدي، والثبات بين الجبال الحصينة والعصية على ولوج المستعمر غداة دخوله البلاد محاولا دك حصون تكانت واجتياح جبالها آنذاك.

فتعالوا بنا نستنطق صفائح جدرانها المرصعة بالحجارة الصماء وطينها اللازب الأحمر والأصفر.

لحظة الدخــول:

نشاهد في مدينة قصر البركة ونحن ندخلها الجبل الذي لا يزال منتصبا بوقار شرق المدينة كشيخ هرم يحكي قصة عبر ملايين الحقب، ويعرف هذا الجبل باسم أنكش مما يزيد بهاء ورونق منظرها، كأنه تمثال حصين أو حارس أمين لفتاة مؤتمنة له تكتنز آلاف الكنوز الذهبية.

وترى تلك الأبنية التي لا تزال تتحدث باسهاب عن نفسها بآلاف القصص كشاهد عيان عن ذلك الخراب أو كأديب توفي قبل انتهاء سرد روايته.

داخـل المديـنة:

الباحة الداخلية تتخللها مداخل وأزقة تحيط بالمسجد الذي أسست فيه المدرسة الإسلامية المحظرة وركن خاص بالأدب والتاريخ مكتبة مما ينعكس بطابع الدور التي زينت بالفسيفساء المصممة من أشكال الحجارة الصماء (المستقاة من المعمار الولاتي) والذي يوحي بالخبرة الفائقة في مجال المعمار والتطلع إلى أشكال الفنون والهندسة والمزج بين التراث الشنقيطي العتيق باختلاف أجناسه، أما الأروقة والحجرات فهي مفروشة من الداخل بالصفائح المنقوشة بالزخارف، وتلتف حولها الأبواب التي تمثل المداخل والمتاريس المطلة على النوافذ والزقاق التي كانت تستعمل في عمليات الحراسة والمداومة على منافذ الأبواب والبوابات، وأشهر هذه الأبواب المدخل الذي كان يفتح لقوافل التجارة حين قدوم الرفكة أي القافلة.، والمدخل الأمامي المطل على مقبرة العلماء وقد افتتحت هذه البوابة تكريما خاصا لهم لتقرب مزارهم للزائر وهم نخبة الزنوج الذين اعتنقوا الإسلام على يد الطالب سيد امحمد ودرسوا عليه علوم القرآن والفقه حتى حفظوا القرآن وبعض العلوم الأخرى، وتتميز هذه المقبرة بالنعوش التي على أجداثهم عن باقي المقبرة الآن.

فهي عبارة عن أحجار سمراء داكنة، وباختلاف هذا اللون تختلف أيضا أطياف الروايات الشفهية التي تنسج حولهم أو تنسب إليهم، كأسبقية جواز زيارتهم قبل القبور الأخرى، ليس هذا فقط بل يوجد قبر آخر يزعم أن صاحبه لأحد الصحابة الأجلاء ويمتاز عن الأجداث الأخرى بطوله وسمكه وإسمه المنقوش على نعشه هو مطاع بن الطعطاع والله أعلم.

والمثير للدهشة أن هذا الموروث الحضاري تنسج حوله ملايين القصص التي رويت لنا متواترا عليها، ومن الغريب قصة (إمام المقبرة) الذي يزعم أن أذانه يسمع وقت صلاة المغرب بين تلك المقابر وقد عرف بالاسم وهو أحمد عبد بن بوبالي هذه الروايات وغيرها كثير ومتشعب ربما لكثرة المناهج التي يؤول إليها ذلك الزخم البشري أو تلك الحقب الماضوية، وقد استقينا هذه الروايات شفويا من بعض السكان المعتزين بمآثر فصر البركة والقاطنين حوله مدى الدهر، وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقال.

أما من الناحية الترفيهية فتوجد صخرة بيضاء كروية الشكل وسط المدينة يقال إنها لترويض رياضة الأبدان كحمل الأثقال والمتباهين برياضة السواعد، وتزن بما قدرنا (100) كيلو غرام، والملفت للإنتباه أن هذه الصخرة جاء بها أحدهم في كفه ووضعها لشباب القرية كتحد في مزاولة رياضة حمل الأثقال.

وأمام هذه المدينة معالم تتجلى للعيان من بعيد وهي عبارة عن بعض الأعمدة أو القلاع المنهارة على ساكنيها لتنام في التراث نومة اللحود، حيث يلتحم الأدب والتاريخ والأسطورة في آن واحد ليجسدها التاريخ متحفا من الآثار النفيسة يرقد في سبات عميق منذ القدم، وتحيط بها سلسلة طويلة من الجبال في بداهة الطبيعة كدرع لحماية القرية، وحصنا منيعا من الأعداء في حالة الحروب، وربهم أعلم بهم وأقوم قيلا. فهذه المدينة تبدو حقا وللوهلة الأولى مدينة أشباح سافر من فيها إلى أحضان الحضارة والتراث، فهي كما وصفها الشيخ سيدي المختار الكنتي حين زيارته لها في قصيدة لم نجد منها إلا الآتي:

لَقدْ جددتْ بالمجـد أبنـاءُ بــــاجـــدٍ

منـاهج ضلت بعد يحيى بن خالـــدِ

همُ القومُ كلً القوم اطعـام جــــائعٍ

وإفـراحُ محـزونٍ وأمن مُطــــاردِ

هكذا كتب التاريخ وروى الحاضر عن مجد ظل الماضي يحافظ عليه رغم الأحقاب.، فهل نحافظ على هذا الموروث الحضاري العريق والكنز الثمين… !؟ ـ

ـــــــــــــــــــــــ

تقريـر: محمد الأمين ولد يحي

تنويــــــــه:

كتب هذا التقرير سنة 2007 ونشر حينها في جريدة "صوت الحق" وتم اعداده ميدانيا من مدينة "قصر البركة" بالاعتماد على التاريخ الشفوي لسكان المدينة

ولكني فوجئت بعد النبش في أغوار أرشيف كتاباتي ان البعض يقوم بنسخ هذا التقرير والتصرف فيه دون ان يعزي عناء هذا الجهد لي شخصيا، بعد اللأي الذي قمت به من اجل المساهمة في حفظ تاريخ شنقيط القيم، علما أني أدرج دائما توقيعي أسفل كتاباتي، فوجب التنويه.

يحياوي/ [email protected]

 

اقرأ أيضا في الاعلامي القديم

 

المصدر الأصلي