أهمية بيرام ولد الداه ولد اعبيد أنه أحد مفاتيح مشكلة لها ما بعدها، بها تتعلق حقوق و مظالم تاريخية، و على برّها ترسو سفن الأمن و الاستقرار، و لكن المشكلة في استغلاله الشخصي لهذه الأهمية، و في ضعف مؤهلاته الشخصية لتسييرها بما يضفي أفياء السلم الأهلي بين أفناء الأعراق و نوازع الشرائح. فهو أشبه بأعمي يقود سيارة بوغاتي سبورت في شارع مكتظ بالمارة، أو طفل يتأبط فأساً في غابة زجاج..
يحتاج التعامل مع بيرام للمرونة، تماما كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعامل الأحمق المطاع في قومه عيينة ابن حصن الفزاري، المنادي من وراء الحجرات، الذي كان يرافقه من قومه ألف دارع لا يسألونه: إلى أين يذهب؟
كان بعيينة عتَهٌ و بطرٌ و سلاطة لسان، فكان يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم من غير استئذان، لأنه - حسب تبريره- لم يستأذن يوماً على أحد من مضر، شبهَ غراب بغراب مع صاحبنا الذي لا يحاور من لم يتفوق عليه في الانتخابات الرئاسية.
الحل ليس في تجاوز القانون في التعامل مع بيرام بسجنه و مضايقته و عدم الترخيص لمنظمته و حزبه، فمن حق الرجل، رغم هناته و رعوناته، أن ينتظم في إطار شرعي يمارس فيه نشاطه الحقوقي، بما لا خروج فيه عن القانون و لا مساس بالطمأنينة العامة.. و من حق من شاء أن يرى فيه مُنجداً، و مخرجاً من الظلمات إلى النور.. غير أن كلي ثقة في أن حُبالى الأيام المُقربات ستلد من مثالب بيرام و خياناته لقضيته ما يكون وقعه في مسامع أنصاره كالآنُكِ المذاب.
لقد خبَرت الرجل لفترة طويلة، و هالني منه خطابه الجريء، و نضاله الذي لا يضع العصا عن عاتقه، و إن ساءتني سرعة غضبه و حزونة طبعه و سذاجته في وضع الثقة في غير مواضعها.. و لكنني لمَمته على شَعَث، و أسررت في خاطري "أي الرجال المهذب؟!"، و اكتفيت منه بمضاء العزم و صدق المقصد.. صدق المقصد الذي تبيّنت بعد لأي أنه لا يتمتع منه بنقير.
لا يمكنني أن أطعن في صدق الرجل في مكافحة الاستعباد، فقد تجرع صابَه و قاسى أوصابَه، مما يتعسر معه أن يزّن بريبة في سعيه لوطن يتساوى فيه الأسياد و العبيد و الأشراف و الأطراف، فطبعٌ بشري أن يعمد المرء لرفع الظلم عنه و عن قومه، غير أنني أستطيع أن اؤكد بحكم معرفتي الدقيقة به أن نوازع الارتزاق و الانتفاع عند الرجل أقوى من دوافع النضال و التضحية، التي ليست سوى مطية يعلو صهوتها مغذَّ الخطو إلى أمَد المصالح الشخصية الضيقة.
لقد آزرت الرجل لأنني رأيت فيه جسارة على اقتحام أعشاش زنانبير الرجعية، فكنت له ظهيرا و سنداً، سودت بيض الصحائف في الدفاع عنه، غير أنني رأيت حين انجلى الغبار و انكشف العِثيَر أنني كنت أركب من ثقتي فيه حماراً حروناً لا طِرفاً مضمراً للرهان..
كل الذين سجنوا مع بيرام من رفاقه السابقين، و لا أستثني أحداً، خرجوا يلعنون اللحظة التي تعرّفوا فيها عليه.. لأن السجن كالسفر و المساكنة يكشف معادن الرجال.. و الحقيقة أن تجربة الرجل لا تكشف من معدنه عن ذهب و لا حتى صريف و إنما عن خزف و فخّار.
من حق من شاء أن يثق في الرجل و أن يعلق عليه آمالاً عِراضاً بالقضاء على الاستعباد، غير أن تجارب الحياة تثبت لأصحابها أن المتستر بالأيام عريان، و أن للمرء أن يخدع بعض الناس بعض الوقت و ليس كل الناس كل الوقت.
إن القضاء على ظاهرة بيرام الحربائية ليس بمنعه من حقه القانوني في ترخيص حزب أو منظمة، و ليس بمضايقته و سجنه، و إنما في إبطال السبب الذي وجد من أجله هذا المناضل بأمعائه:
- يجب الاعتراف بأن العبودية ما زالت واقعا ملموسا في كل التفاصيل اليومية في بلادنا، و أن المستعبدين ما يزالون يرزحون تحت وطأة القهر و نير الاستعباد بشتى أنواعه و تجلياته.
- يجب تفعيل القوانين التي تم سنّها لمكافحة الاسترقاق، و الأخذ في تنفيذها بقوة و حزم، فلا يستثنى في المعاقبة على انتهاكها أمير و لا غفير.
- يجب تطبيق إجبارية التعليم، و التمييز الإيجابي، و تبني سياسات اقتصادية تكون أولويتها في دعم العبيد و العبيد السابقين و إلحاقهم ببقية المكونات.
- ينبغي أن تكون الأولوية في التوظيف و محاربة البطالة لأبناء العبيد، و أن تتساوى فرصهم في الترقية في المناصب مع بقية المواطنين، في جميع القطاعات المدنية و العسكرية.
- إلى جانب الدور الذي ينبغي أن يقوم به الفقهاء و رجال الدين من محو آثار الاستعباد باسم الدين من نفس العبد و السيد، فإنه ينبغي إقرار نظام تربوي، جامع، شامل لجميع أبناء مكونات الشعب الموريتاني، يعمل على تنشئة جيل لا تمايز فيه و لا تفاوت بانتساب و إنما باكتساب.
إن العمل الصادق على استئصال شافة الممارسات الاسترقاقية و العنصرية التي يعاني منها لحراطين و الزنوج، هي وحدها الكفيلة بأن تنفي المتاجرين من أمثال بيرام ولد الداه ولد اعبيدي من المشهد الحقوقي و السياسي كما ينفي الكير خبثه. أما الظلم و غمط الحقوق و سياسة النعامة فهي ما يستنسر به بُغاث بيرام.