في ردود الفعل على الإرهاب الذي يضرب فرنسا هذه الأيام، واتكاءً على جريمة ذبح المدرّس الفرنسي صمويل باتي، صدرت عن بعض المسؤولين الفرنسيين الكبار سلسلة تصريحات لا يبيح العقل تصنيفها إلا تحت مزيج عجيب من التسخيف والتغابي والتخابث؛ في آن معاً، وعن سابق قصد وتصميم، وانعدام اكتراث بالحدّ الادنى من تحكيم الصواب البسيط. قصب السبق، في تقديري شخصياً، انفرد به وزير الداخلية جيرار دارمنان، الذي قال التالي على قناة إخبارية رئيسية: «صدمني دائماً أن أدخل إلى مخزن كبير وأرى وجود قسم خاصّ بمطبخ جماعاتي، إذْ هكذا تبدأ النزعة الجماعاتية». وإذْ أدرك الوزير، أو جرى تنبيهه، إلى عواقب تصريح كهذا، فقد سارع إلى التذكير بأنّ ما يقوله هو رأيه الشخصي، و»لحسن الحظ ليست جميع آرائي جزءاً من قوانين الجمهورية». توجّب، كذلك، أن يلطّف تصريحاته أكثر، في لقاء إذاعي لاحق، فيزعم إنّ تعليقه كان بمثابة استنكار لـ»طراز من الرأسمالية الفرنسية، والرأسمالية العالمية أيضاً، التي تلجأ إلى استخدام التسويق الجماعاتي». ربْط دارمنان بين رفوف المنتجات والأغذية والثياب المنتمية إلى ثقافات أخرى، وشيوع «النزعة الجماعاتية»؛ ليس جديداً على السجالات الفرنسية الأسخف حول إقحام علاقة مفتعلة بين القيم الجمهورية والعلمانية، والامتناع عن أكل لحم الخنزير مثلاً، أو هذا أو ذاك من خيارات اللباس
ريشار فيران، رئيس مجلس النواب والمنتمي أصلاً إلى حزب رئيس الجمهورية، قال بوضوح إنه لا يشعر بأية صدمة لمرأى رفوف المطابخ تلك، مضيفاً أنه حين يدخل إلى مخزن كبير فإنه يتوجه على الفور إلى «المنتجات البروتونية» لأنه بروتوني الولادة. لورانس روسينيول، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الاشتراكي والوزيرة السابقة، ذكّرت دارمنان بأنّ المطابخ التي يقصدها ليست الحلال وحده، بل هناك أيضاً الكاشير والتاي والهندي والآسيوي، «من دون أن ننسى البيو، هذا الآتي من مطبخ الـ’آميش’ الجماعاتي»، في إشارة إلى الفرقة المسيحية المعروفة. ردّ الفعل الأبرع والأذكى جاء، في تقديري الشخصي، من رسام الكاريكاتيــر فرنسوا ـ هنري مونييه (أو «بابوز» حسب اسمه الفني)، في العدد الأسبوعي لصحيفة «الأومانيتيه» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي؛ في رسم بعنوان «كسكس جمهوري، من إعداد الشيف دارمنان». بابوز استبدل مكوّنات الطبق المغاربي الشهير بأخرى فرنسية وطنية، إذا جاز التعبير: النقانق المغاربية (المرغيز) بنقانق تولوز، وسميد الكسكس بالفاصولياء البيضاء، والخضار بشحم الخنزير المدخن، والدجاج بالبط، والحمّص بالثوم، والماء بالنبيذ الأحمر؛ وأخيراً… الطاجن بالـ«كاسرولة»!
الأرجح أنّ أحداً من معاوني دارمنان ومستشاريه المقرّبين لم ينبهه إلى واقعة تحريم الكسكس خلال عقود محاكم التفتيش الإسبانية، بالنظر إلى أنّ الطبق لم يكن مركزياً في المطبخ العربي والإسلامي الأندلسي، فحسب؛ بل كان، في الجوهر، رمزاً سياسياً وثقافياً وسلوكياً، على شاكلة مطابخ العالم حين تتلاقى حضارياً. ولم يكن غريباً، والحال هذه، أنّ الطبق صمد بقوّة أمام التحريم، وتحايل الناس على الرقيب فطوّروا الكسكس ذاته إلى طبخات بدّلت المسمّيات واحتفظت بالمكوّنات إلى حدّ كبير؛ وهذا ما يلمسه المرء في تنويعات كسكسية شعبية قائمة حتى الساعة، ليس في إسبانيا وحدها بل في المكسيك والبرتغال والبرازيل، وهذا البلد الأخير نجح في الحفاظ على التسمية ذاتها: Cuzcuz. وفي صقلية، حيث التأثير العربي ضارب الجذور ومتصل ومتواصل، وثمة مطبخ متكامل تتفاعل فيه العناصر العربية والصقلية؛ تحتضن الجزيرة مهرجاناً سنوياً يدعى «احتفالية الكسكس»، يجتذب 100 ألف زائر، حسب الموسوعات المتخصصة بالتاريخ الثقافي للطبخ.
كذلك فإنّ ربط دارمنان بين رفوف المنتجات والأغذية والثياب المنتمية إلى ثقافات أخرى، وشيوع «النزعة الجماعاتية»؛ ليس جديداً على السجالات الفرنسية الأسخف حول إقحام علاقة مفتعلة بين القيم الجمهورية والعلمانية، والامتناع عن أكل لحم الخنزير مثلاً، أو هذا أو ذاك من خيارات اللباس (وليس ارتداء الحجاب بالضرورة). ولعلّ ما استجدّ في تسخيفات وزير الداخلية الفرنسي أنها تستعيد تراث الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وتُدخله في قلب الفلسفة النيو ـ ليبرالية التي يزعم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتناقها. فمن المعروف أن دارمنان ينتمي تاريخياً إلى اليمين، وتربى في كنف الطبعة الساركوزية من هذا اليمين، أكثر من تأثره بنسخة الجنرال ديغول أو نسخة جاك شيراك، وقد اختاره ماكرون لوزارة الداخلية استجابة لرغبة دارمنان الشخصية وتلبية لمطالب ذلك اليمين تحديداً، وضمن مطمع لدى الرئيس الفرنسي في دغدغة اليمين المتشدد أيضاً. ولغير العارفين بمفاصل الإدارة الفرنسية الراهنة، يُشار إلى أنّ دارمنان عُرف بإساءة استخدام الوظيفة لقاء خدمة جنسية في عام 2015 حين كان عمدة، وهو اليوم متهم بالاغتصاب (بريء حتى تثبت إدانته طبعاً).
والحال أنّ الكسكس يمكن أن يكون جمهورياً طبقاً لوصفة «الشيف دارمنان» ذاتها، في رسم بابوز، وهذا جزء من حرّية الطبخ وحرّية التعبير أيضاً؛ إذْ أنّ مكوّنات الكسكس المغاربي لم تكن في أيّ يوم «متزمتة» لا تقبل إلا الدجاج، ولا تُدخل لحم الخروف أو العجل أو السمك، فهذه أصناف مذاقية وثقافية في نهاية المطاف. ولم يكن ممكناً تحويل الوصفة الدارمنانية إلى ما يشبه «قيمة» جمهورية مطلقة، حتى من زاوية التخييل الساخر والناقد، إلا في أعقاب تصريحات الوزير حول رفوف المنتجات «الجماعاتية» وأثرها على الاندماج الاجتماعي الجمهوري. والثابت أنّ هذه المناخات الجمهورية/ المطبخية ليست سوى مظهر واحد من لهاث ساسة فرنسيين كثر، للحاق بالخطاب اليميني العنصري المتطرف، دون سواه