في بداية الأسبوع الجاري، أجرى الملك محمد السادس مباحثات مع الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتريش حول عملية جبهة البوليساريو إغلاق معبر الكركرات من طرف البوليساريو، وأخبره بقرار الرباط التدخل العسكري لوضع نهاية لهذا الخلل. وقتها أعرب المسؤول الأممي عن قلقه الشديد من احتمال تدهور ملف الصحراء وخروجه من دائرة المفاوضات إلى دائرة الحرب. ويأتي بيان جبهة البوليساريو السبت من الأسبوع الجاري القاضي بالانسحاب من اتفاقية وقف إطلاق النار الموقع عليها سنة 1991 ليشكل منعطفا ويدخل النزاع في خانة مجهولة.
واعتقدت الأمم المتحدة في تراجع الأزمات والتوتر في العالم نتيجة اهتمام البشرية بكيفية تجاوز العدو المشترك وهو كورونا فيروس. وعمليا تراجعت النزاعات نسبيا ولاسيما الإرهاب، لكن مع ذلك بعض ملفات التوتر في العلاقات الدولية تهدد بين الحين والآخر بالانفجار. وفي هذا الصدد، تابع العالم التوتر التركي-اليوناني حول الغاز، ثم التوتر في إثيوبيا شرق القارة الأفريقية، والآن هناك ملف الصحراء الذي يهدد بالانفجار الحربي إذا لم تسارع الأمم المتحدة إلى احتوائه.
ويعد نزاع الصحراء من أقدم النزاعات في القارة الأفريقية، فقد اندلع نهاية الخمسينيات بين المغرب واسبانيا وشهد حروبا. ثم انتقل إلى تصفية الاستعمار تدريجيا عبر استعادة المغرب بعض الأجزاء وتحول إلى صراع إقليمي في شمال أفريقيا في السبعينات بعد ظهور جبهة البوليساريو التي تنازع المغرب السيادة وتحظى بدعم كبير من طرف الجزائر.
وبعد 16 سنة من الحرب ما بين 1975 إلى 1991، وقع المغرب والبوليساريو اتفاقية وقف إطلاق النار سنة 1991 وأرسلت الأمم المتحدة قوات سلام إلى المنطقة وأرست آليات تواجد كل طرف، وبدأت تشرف على المفاوضات. وتبين لاحقا صعوبة إجراء الاستفتاء نتيجة الاختلاف العميق في تحديد هوية من سيصوت، وللخروج من المأزق، طرح المغرب مقترح الحكم الذاتي على الصحراويين. وفشل المبعوثون الخاصون للأمين العام للأمم المتحدة في التوفيق بين الطرفين، انطلاقا من جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة كأول مبعوث إلى الرئيس الألماني السابق هورست كوهلر كآخر مبعوث، حيث استقال الجميع بسبب الفشل في تقريب المواقف بين الطرفين.
القدس العربي
مشكل الكركرات
الصحراء المتنازع عليها تفوق مساحتها 260 ألف كلم مربع، ويكفي أن الجدار الفاصل الآن في الصحراء يمتد على ما يفوق 2500 كلم من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، ويتواجد المغرب في المنطقة الأكبر شمال الجدار، بينما تتواجد البوليساريو مؤخرا في مناطق في الشطر الجنوبي للجدار في بلدات مثل تفاريتي وميجيك وبئر لحلو، حيث تقيم إدارات وتجمعات سكنية صغيرة. ولكن النزاع سيتفجر منذ سنة 2016 حول معبر الكركرات. وكان هذا المعبر مغلقا ومنطقة مجردة من السلاح وفق اتفاقيات وقف إطلاق النار سنة1991. وتدريجيا، بدأ يتحول إلى شريان تجاري بين المغرب وموريتانيا ثم بين المغرب ومجموع أفريقيا الغربية. ولاحقا، تحول إلى طريق هام للجالية الموريتانية وأفريقيا الغربية المقيمة في أوروبا عندما تريد الذهاب إلى وطنها الأصلي. وكان أفراد البوليساريو ينتفعون من هذه الطريق التي تحولت إلى نقطة وصل غير مباشرة بين المغرب ومخيمات تندوف عبر الطريق الموريتاني.
وقفز اسم الكركرات إلى واجهة الأحداث سنة 2016، وقتها قرر المغرب تنظيف المنطقة من السيارات المهملة المتخلي عنها وهي تفوق 600. واعتبرت جبهة البوليساريو ذلك خرقا وبدأت الاحتجاج وقطع المعبر بين الحين والآخر. وكانت الأمم المتحدة توصي دائما بفتح المعبر، وتعتقد المنظمة أن المعبر ونظرا لدوره التجاري قد يخفف من التوتر بحكم المصالح المشتركة التي ينسجها بطريقة أو أخرى بين الأطراف المتواجهة.
وكان البوليساريو من وراء إغلاق المعبر يهدف إلى تحقيق مكسبين، الأول وهو منع المغرب من عمقه الأفريقي، والثاني يتجلى في قطع التجارة عن أفريقيا الغربية عبر المعبر البري بعدما فتحت عدد من دول المنطقة قنصليات في مدن الصحراء العيون والداخلة.
وقبل صدور القرار الأممي الجديد نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أقدمت عناصر صحراوية تابعة للبوليساريو وتحت غطاء المجتمع المدني بإغلاق معبر الكركرات في وجه حركة المرور بين المغرب وموريتانيا. فشلت وساطة موريتانيا وفشلت محاولة الأمم المتحدة، واعترف الأمين العام لهذه المنطقة بذلك يوم الجمعة من الأسبوع الجاري. وقبل ذلك بثلاثة أيام، كان قد أعرب عن قلقه الشديد وأخذ الاحتياطات اللازمة لنقل أعضاء المينورسو إلى جزر الكناري في حالة اندلاع الحرب.
ويوم الجمعة من الأسبوع الجاري، قام الجيش المغربي بالتدخل لفتح المعبر، وكانت عملية دقيقة تجنبت وقوع جرحى أو قتلى بل حتى أسرى في صفوف أنصار البوليساريو. وأصدر الجيش بيانا يؤكد فيه غياب النية في القتال بل فقط تأمين المعبر ليعود إلى طبيعته السابقة كممر للتجارة وتنقل الأشخاص.
وكرد فعل، أعلنت البوليساريو في بيان لها عدم الالتزام باتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة سنة 1991، وشنت بعض الهجمات منها واحدة على نقطة المحبس على بعد 2000 كلم من الكركرات، ورد الجيش المغربي على الهجوم وأكد في بيان صادر عنه. وتحدثت الجبهة في بيان لها عن هجمات ليلة الجمعة السبت على عدد من النقاط الأخرى.
فرضية الحرب
وفي ظل التطور المقلق الناتج عن الكركرات الذي جاء ليكسر الجمود الذي يشهده الملف وخاصة بعدما دخل روتين مصادقة مجلس الأمن سنويا على قرار يمدد مهام قوات المينورسو، توجد مؤشرات باحتمال استئناف الحرب وقد تستغرق زمنيا بين المغرب وجبهة البوليساريو كما توجد مؤشرات تستبعد هذه الفرضية وتتحدث عن مناوشات محدودة زمنيا. وعمليا، أعلنت البوليساريو يوم السبت 14 تشرين الثاني/نوفمبر بالانسحاب من اتفاقية وقف إطلاق النار الموقع عليها سنة 1991.
وعلاقة بفرضية وقوع الحرب والمناوشات المحدودة، توجد المعطيات التالية:
أولا، الضغط الدولي وخاصة الاتحاد الأوروبي الذي سيمنع وقوع الحرب أو استئناف المواجهات لمدة زمنية طويلة بحكم الموقع الجغرافي الحساس للنزاع في شمال أفريقيا وقربه من الغرب.
ثانيا، في الوقت نفسه، هذا الفريق يعتقد في مخافة امتداد الحرب بين المغرب والجزائر، بينما الوضع الداخلي للبلدين لا يسمح بأي حرب بسبب الأزمة الاقتصادية الناتجة عن كورونا فيروس.
ثالثا، يرتكز هذا الفريق كذلك على تهديد البوليساريو بالحرب منذ سنوات طويلة دون الانتقال إلى التطبيق، وبالتالي يتعلق الأمر بشعارات للاستهلاك الداخلي في المخيمات وكل مناوشات حربية ستكون محدودة.
وفي الاتجاه المعاكس، توجد مؤشرات واقعية ومقلقة حول احتمال نشوب الحرب بعد 29 سنة من وقف إطلاق النار، أي جيل كامل تربى على السلام ولكنه الآن أمام هذه الفرضية المأساوية، وأبرز العوامل هي:
في المقام الأول، توجد سوابق تاريخية، أي أن نزاع الصحراء شهدت حروبا متعددة طيلة ثلاثة عقود، وكانت بين اسبانيا والمغرب في الخمسينيات والستينيات، ثم وقعت بين المغرب والبوليساريو سنة 1991 ودامت 16 سنة وكانت حربا مكلفة.
وفي المقام الثاني، مسرح الحرب هو الصحراء، وهي منطقة شبه خالية تفتقد حاليا لأي أهمية استراتيجية، فلا هي بمعبر الطاقة ولا هي بمعبر رئيسي تجاري لا يمكن الاستغناء عنه، وبالتالي لن يتدخل المنتظم الدولي لاستبعاد الحرب.
في المقام الثالث، إذا وقعت المواجهات لن تسبب في نزوح المدنيين على شاكلة سوريا أو العراق أو السودان نظرا لضعف ساكنة مدن الصحراء أو المخيمات سكانيا، بل قد تتسبب في تراجع ظاهرة الهجرة بسبب حالة الطوارئ التي ستعلنها دول المنطقة وأساسا المغرب وموريتانيا ومنها مراقبة مشددة للسواحل في مياه الصحراء.
في المقام الرابع، العيش في المخيمات لم يعد يطاق وليس هناك حياة مدنية من أجل توفير الحياة الكريمة للشباب مثل المعامل والمزارع بل العيش فقط على المساعدات. وهذا الوضع سيؤدي إلى انفجار تتخوف منه البوليساريو، وقد تكون الحرب متنفسا.
في المقام الخامس، يوجد عامل لا يقل أهمية هو النزعة العسكرية لزعيم الجبهة حاليا، إبراهيم غالي الذي رفض سنة 1991 اتفاقية وقف إطلاق النار ورضخ لزعيم الجبهة الراحل محمد ولد عبد العزيز، وهو الذي كان يضغط منذ سنوات نحو استئناف الحرب. وكمكمل، اعتقاد جزء من القيادة العسكرية للبوليساريو أن الأمم المتحدة تخلت عن استفتاء تقرير المصير وتراهن على حكم ذاتي متقدم أو ما يشبه العلاقة الفيدرالية بين الصحراء والمغرب. ولهذا تريد، كما تعتقد، إعادة الأمم المتحدة إلى الاستفتاء. ويأتي يوم 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 وتعلن البوليساريو نهاية اتفاقية وقف أطلاق النار الموقع عليها سنة 1991.
الدور المرتقب للأمم المتحدة
من خلال ما حصل في الكركرات والتطورات التي تلتها من وقف العمل باتفاقية وقف إطلاق النار من طرف البوليساريو، يكون ملف الصحراء قد دخل مرحلة جديدة عنوانها البارز التوتر وشبح الحرب الذي يخيم على الجميع. وتدرك الأمم المتحدة أنها أصبحت أكثر من أي وقت مضى مطالبة بالتحرك العاجل لتعزيز السلام. والطريق يمر أساسا عبر الإسراع في تعيين مبعوث خاص للأمم المتحدة بعدما استقال هورست كوهلر خلال ايار/مايو 2019 وفشلت في إيجاد خليفة له حتى الآن. وتذهب الدول الكبرى مثل روسيا أو “مجموعة أصدقاء الصحراء الغربية” ومنها فرنسا في تعزيز الدور الأممي. وبدون شك، ستسارع بعض الدول وعلى رأسها فرنسا واسبانيا بتعزيز دور الأمم المتحدة والبحث عن مبعوث أممي جديد