في العنوان شيءٌ من القسوة والتشاؤم؛ وقد يرى فيه البعض إثارة وحساسية. لكن السؤال عن وضع البيضان ومستقبلهم، أصبح مبحثا بالغ الجدية والوجاهة ولَمْ يَعُد يفاجِئُ أحدا. لا لصعوبة المرحلة التاريخية التي تعيشها هذه المجموعة الشعبية وما يواجهها من تحديات سياسية وديمغرافية وإستراتيجية وحضارية فحسب، وإنما لكثرة انتشار هذا السؤال وأمثاله بين الناس.
فمصير البيضان ودولتِهم وحضارتِهم ومركزِهم السياسي والديمغرافي... وإلى أين يسيرون؟ وهل ينقرضون؟ وما مدى استفادتهم من الدولة والأرض؟ وما هي حصونهم وضماناتهم؟ ومن يتكلم باسمهم ومن يدافع عنهم؟... إشكالاتٌ باتت تـُطرح يوميا من قِبل أفراد هذه المجموعة، شبابا وشِيبا، رجالا ونساء، مثقفين وبسطاء، تصدُر من قلوبهم وعن قرائحهم، بنفس النبرة البسيطة والعميقة في آن واحد.
فهل يواجه البيضانَ مِن التحديات والمخاطر ما لا يواجه غيرهم؟ وهل يتناقض طرح مثل هذا الموضوع مع الطرح الوطني ومفهوم المواطنة الذي تقوم عليه الدولة الحديثة؟
هل من المفيد أو مِنَ الممكن تغطية هذه الهواجس والحقائق التي تلُوح اليومَ بقوة في سماء موريتانيا، أَمْ أنَّ مِنَ الأنْسَب طرح الموضوع وإنزاله إلى الأرض ومعالجته بشكل واعٍ ومسئول قبْلَ أنْ يَعْبَثَ به العابثون والمرتزقة والأجانبُ واللا مسؤولون؟
قبل الشروع في تحديد مفاهيم هذا الكلام ومنطلقاته، سيكون مِن المناسب التقديمُ بين يَدَيْه بجملة من المداخيل العامة:
المدخل الأول: سيكون من المستغرَب أن يرى أحدهم في الموضوع أيَّ نوع من ضيق النظرة وإثارة النعرات... ذلك أن لكل طائفة بشرية من الهموم والتحديات ما قد يواجهها لوحدها، كما قد يكون لها من ذلك أيضا ما يشملها والمجموعاتِ الوطنية الأخرى، دون أن يكون في ذلك تعارض مع مبادئ الأخوة والتاريخ والمصير المشترك.
المدخل الثاني: أن هذه المعالجة منطلقة، في أساسها، من هواجس الناس وسؤالاتهم. فلا يحق لأي جهة، سواءً كانت أكثرية أو أقلية وسواءً كانت في الحكم أو في المعارضة أو كانت إيديولوجية أو عرقية، أن تصنع للناس قضيتهم وتمليها عليهم. بل إن دور النُخَب والساسة هو صياغة القضايا بناء على حاجات الناس وهواجسهم والسؤال على ألسنتهم.
المدخل الثالث: أنه بتجاهُلنا لاستشكالات الناس والحقائق الواقعة أمام أعيننا، نكون قد خدعنا أنفسنا وخذلنا شعبنا ووطننا بكل مكوناته. فواجب كل مواطن، كما يقول ريموند آرون، هو التمسك بالحقيقة حتى في مواقفه حيالَ الوطن؛ وإنَّ واجب كل مُواطنٍ الموتُ من أجل وطنه.. لكنْ ليس هناك أيُّ شخص مُرْغَمٌ على الكذب من أجل هذا الوطن!
المدخل الرابع: أن هذه المعالجة تنطلق من بعض الصفات الخاصة بالبيضان والمرتبطة بهم أكثر من غيرهم من المجتمعات الشقيقة والمجاورة. من هذه الصفة:
1. بداوة البيضان وغياب مفهوم الدولة المركزية في عقلياتهم وعبر تاريخهم السياسي.
2. قلة عددهم وضعف نموهم الديمغرافي وافتقارُهم إلى أي مَدٍ شعْبي على الكرة الأرضية من خارج حدود ما يسمى "اتراب البيضان"، إضافة إلى تَشَتُّـتِهِم عَبْرَ صحراء شاسعة وفي دول مختلفة.
3. بدائية وارتجالية الأشكال والأدوات التي تبنى بها الظاهرة السياسية في بلاد البيضان وضعف مادتهم السياسية وافتقارها إلى القضية وتقادُم أساليبها وارتباك قياداتها وخروجهم عن الموضوع وإهمالهم للأسئلة الكبرى والهواجس الشعبية الحقيقية.
4. ترَسُّخُ بعض العادات السلبية في المجتمع، مثل عدم الاعتماد على النفس في كثير من الخدمات الضرورية للحياة، مثل خدمات المنزل التي أصبح أغنى الأغنياء في الخليج وأوربا يقومون بها بأنفسهم دون الاستعانة بأجير.
5. استفحال كابوس الهجرة بشكل مرعب وغير مسبوق إلى أرض البيضان وعبرها.
6. أن مجتمع البيضان، كغيره من المجتمعات الصحراوية، مجتمع جامد يتعذَّر عليه التفاعل صِحِّيًا مع المجتمعات الأخرى، إلا إذا كانت هناك غَلـَبَة مُسَلَّمٌ بها وتحصين ميداني أو ثقافي فعّال... على العكس تماما من المجتمعات المائعة التي يسهل عليها التعامل والتفاعل مع مختلف المجتمعات والأوضاع.
7. أن المد الشعوبي والجَسَرة على الثقافة الأصيلة، بما في ذلك اللغة العربية والثقافة الإسلامية، لا تأتي من الجنوب والشمال والشرق والغرب فحسب، بل إن الشعوبية الثقافية القادمة من داخل أوساط الأجيال الأولى من البيضان المتعلمين أخطر وأعمق.
المدخل الخامس: أنه قد أصبح لهذا الأمر من الراهنية والإلحاح، ما يجعل النخبَ الصادقة والساسة الملتزمين يبتعدون عن المجاملة حِيالـَه أو أن يَعْبَأوا بالحساسية المصطنعة والعُقد التي تحوم حوله. فهل من المنصف أو المفيد أن تبقى كلمة "البيضان" مختصَرَة في أمور تراثية بسيطة، كأدوات الصناعة التقليدية والموسيقى والشعر الشعبيين؛ وأن يكون من المحظور والمثير معالجة أوضاع هذه المجموعة وهمومها السياسية في مَحْفِل رسمي أو عمومي أو في كتابة جدية؟