في 20 أبريل (نيسان) من العام الماضي، ظهر شاب يعتمر قبعة حمراء اللون وزياً عسكرياً على شاشة التلفزيون الوطني في تشاد، محاطاً بضباط عسكريين، في وقت أعلن المتحدث باسمه أنه سيتسلم موقع الرئاسة. توفي والد الجنرال محمد ديبي، الرئيس إدريس ديبي، في وقت سابق من ذلك اليوم، وبدل أن يسمح لرئيس مجلس النواب بالحلول مكانه كما ينص القانون، حل البرلمان وتسلم مقاليد السلطة.
وبعد مرور شهر على هذا الحدث، في مالي، أعلم متحدث باسم الجيش شعب البلاد عبر البث المباشر بأن رئيسه ورئيس وزرائه المدنيين قد احتجزا، وأن السلطة سوف تنتقل إلى الضابط أسيمي غويتا، وكان ذلك الانقلاب الثاني الذي تشهده مالي خلال تسعة أشهر.
تكررت مشاهد [حوادث] شبيهة في غينيا في سبتمبر (أيلول)، والسودان في أكتوبر (تشرين الأول)، وبوركينا فاسو، الأسبوع الماضي. يوم الثلاثاء، أفادت التقارير عن سماع أصوات إطلاق نيران كثيف في عاصمة غينيا بيساو في ما قد يكون محاولة انقلاب أخرى.
صحيح أن معظم هذه البلدان كانت تواجه أزمات سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وهي الظروف التي غالباً ما تعبد الطريق أمام التدخلات العسكرية، إنما مع ذلك، حدوث خمسة انقلابات عسكرية خلال تسعة أشهر هو أمر ملفت.
"الديمقراطية في أفريقيا"
وقال كريستوفر فومونيوه، كبير المساعدين في الشأن الأفريقي لدى المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية "بالنسبة إليّ، لأنني كنت طالباً جامعياً شاباً خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي هنا، أرى ما يحدث كأنه عودة إلى حقبة الأنظمة العسكرية الماضية. والأمر الوحيد الذي تغير هو أن منفذي الانقلاب اليوم يحاولون أن يجملوا مقاربتهم للأمر، وألا يقتلوا رئيس الدولة".
ما سبب زيادة الانقلابات؟ برأي المحللين، خلق تضافر عوامل داخلية بما فيها التبعات الاقتصادية الأليمة للجائحة، والتحول في المشهد الإقليمي والجيوسياسي، ظروفاً [كارثة] سياسية مواتية.
ويقول نيك تشيزمان من جامعة بيرمينغهام، ومؤلف كتاب "الديمقراطية في أفريقيا" إن الأشهر التسعة التي انقضت كانت "استثنائية" ولكن غير مفاجئة كلياً، "تحصل الانقلابات في كل المناطق التي كنا لنتوقع أن نرى انقلابات فيها، وهي بلدان شهدت انقلابات في السابق، وفيها جيوش تتدخل نسبياً في الحياة السياسية وأنظمة ديمقراطية غير مستقرة إلى حد".
وفي وقت يختلف السياق في كل من هذه الحالات، قالت فايث مابيرا، كبيرة الباحثين في مركز الأبحاث، معهد الحوار العالمي، إن المجالس العسكرية [الانقلابية] تبدو وكأنها تلتزم "كتاب تعليمات"، وشرحت بأن هذه المجالس "ماهرة في قراءة المؤشرات، وما أعنيه بمؤشرات أو إشارات هو الاستياء الشعبي من إدارة الحكومات للوضع الأمني العام المتدهور جراء عنف (الإرهابيين). وهي ماهرة كذلك في ربط مطالبها الخاصة بهذا الشعور العام".
الأزمات السياسية
غالباً ما تحدث الانقلابات في خضم الأزمات السياسية، ومن أحدث الأمثلة على ذلك، الانتخابات التشريعية الإشكالية [نتائج مطعون فيها] في مالي في عام 2020 وقرار رئيس غينيا المخلوع ألفا كوندي بتعديل الدستور والترشح المثير للجدل [لا يحظى بإجماع] إلى ولاية ثالثة.
وهذا العامل الأخير [أي الترشح] "فرض بواسطة كثير من العنف السياسي واحتجاز عدد كبير من الناس وإرغام كثيرين على الذهاب إلى المنفى. قضى على الحرية، وبلغت الأمور طريقاً سياسياً مسدوداً بالكامل"، يقول أليوان تينه، مؤسس مركز الأبحاث "أفريكاجوم سنتر".
ويشكل فشل الأنظمة الأمنية عاملاً آخر. وفي هذا الإطار، كان تدهور الوضع الأمني في بوركينا فاسو السبب الأساسي الذي ذكرته الطغمة العسكرية الجديدة بقيادة بول هنري سانداوغو داميبا، لاستيلائها على السلطة، (وداميبا هو آخر جندي من بين مجموعة من الجنود المدربين في الغرب الذين قادوا انقلابات في بلادهم. ومن هؤلاء قائد الطغمة في غينيا، مامادي دومبويا، وغويتا في مالي).
التبعات الاقتصادية
والعامل الثالث هو التبعات الاقتصادية لأزمة "كوفيد-19" التي عقدت سبل الحصول على الطعام كما سبل المعيشة، ووفقاً لبحث أجرته المفوضية الأوروبية، بلغ عدد الأفراد المحتاجين لمساعدات غذائية طارئة في عام 2021 نحو 23 مليون شخص في سبع دول من الساحل الأفريقي.
ولفت باكاري سامبي من معهد "تمبكتو" إلى أن تلك العوامل فاقمت حدة المشاكل القديمة، من قبيل "افتقار قيادات غرب أفريقيا إلى المشروعية، وتنامي نفوذ الحركات الدينية التي استفادت من إضعاف المجتمع المدني العلماني، (و) الحركات الشعبوية المتزايدة في ظل الأزمات الاقتصادية الشديدة بعد الجائحة".
وبعد ذلك، تأتي مسألة العواقب.
متظاهرون يحتشدون في واغادوغو، بوركينا فاسو، تعبيراً عن دعمهم للجيش، ويرفعون صورة الكولونيل أسيمي غويتا (غيتي)
حين أعلن النظام العسكري الجديد في مالي في مطلع يناير (كانون الثاني) نيته إرجاء الانتخابات، المقررة في فبراير (شباط) بالأساس، حتى عام 2025، ردت المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "إيكواس" بالإعلان عن فرضها عقوبات على البلد غير الساحلي [لا منفذ بحرياً له]، وإغلاقها الحدود معه.
ولكن الطغمة العسكرية الجديدة في غينيا المجاورة خالفت الدول الباقية ووافقت على الاستمرار بالسماح لمالي باستخدام مينائها. بات النفوذ المتضائل للمجموعة الإقليمية يقترن بمشكلة مصداقية.
وقال فومونيوه "ترتبط الانتقادات الموجهة لـ "إيكواس" وغيرها من الهيئات الإقليمية بعدم تحركها من حيث اتخاذ خطوات لمعالجة الظروف التي تؤدي إلى وقوع انقلابات".
ويقول النقاد إن المجموعة لم تبذل الجهد الكافي لمعالجة السلوك السيئ للحكومات المدنية، من قبيل تزوير الانتخابات، وإضعاف حكم القانون وانتهاكات حقوق الإنسان، بالإضافة إلى الانقلابات العسكرية.
ويعود ذلك جزئياً إلى أن الانقلاب يشكل خطاً أحمر [محظوراً] أكثر وضوحاً من الانتهاكات الأخرى. وأضاف تشيزمان أنه في وقت لدى رؤساء الدول الحاليين مصلحة في رفض الانقلابات العسكرية علناً، لديهم كذلك مصلحة في عدم معارضة الانتخابات غير النزيهة أو التلاعب بالدستور، وهي أساليب قد يحتاجونها شخصياً في المستقبل.
ومن أعضاء الهيئة الإقليمية الحاليين رئيس ساحل العاج الحسن واتارا الذي عدل الدستور أخيراً لكي يعاد انتخابه لولاية ثالثة، وماكي سال من السنغال الذي أشارت التقارير إلى أنه فكر في القيام بالأمر نفسه، وقال سامبي "إنه اتحاد رؤساء يدافعون عن مصالحهم السياسية الخاصة ويهملون الحوكمة الجيدة وحكم القانون".
من ناحية أخرى، رد المجتمع الدولي الأوسع بطريقة مبهمة كذلك على التحولات غير الديمقراطية الأخيرة.
وقال سامبي، "في تسعينيات القرن الماضي، كان أي نظام ينتهك قواعد اللعبة الديمقراطية في دولة أفريقية معرضاً للعقوبات من الشركاء الدوليين. ولكن هذا الخوف تبدد اليوم مع وجود جهات مانحة لا تكترث إلى حد كبير بالشفافية وحكم القانون وحقوق الإنسان"، وبعبارات أخرى، لو فرضت العقوبات على أي طغمة عسكرية، يمكن أن تتدخل روسيا أو الصين أو تركيا لملء الفراغ المالي.
وهذا تحول من حقبة الحرب الباردة، حين عقدت القوى الغربية والشرقية على حد سواء "تحالفات عمياء مع أنظمة استبدادية" لأهداف سياسية، وفقاً لفومونيوه، ثم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأ الغرب بالتركيز على حقوق الإنسان والحريات المدنية في علاقاته الدبلوماسية، وأخذت الأنظمة الاستبدادية الأفريقية تنهار.
ولكن اليوم، تحظى الطغمة العسكرية المالية بدعم القوات الروسية، وقد عرضت مجموعة شبه مسلحة مرتبطة بالكرملين خدماتها على حكام بوركينا فاسو العسكريين الجدد. وشوهد المتظاهرون وهم يلوحون بالأعلام الروسية في واغادوغو الأسبوع الماضي. وفي هذه الأثناء، "أشاح (القادة الغربيون) بنظرهم عن الموضوع" حسب تعبير فومونيوه. وبدأت فرنسا، التي تحارب المتمردين في السنغال منذ عام 2013 بسحب قواتها العام الماضي.
وقال تشيزمان، "روسيا والصين لا تحفلان بالديمقراطية، والولايات المتحدة لا تتدخل، في وقت تنشغل بخوض معارك كثيرة في الداخل، ومتى كانت آخر مرة قام فيها بوريس جونسون بأي تصريح مهم حول أفريقيا؟ في هذا السياق، قد تظن أنه من الأسهل لك القيام بانقلاب والإفلات من العقاب".
ومن الأمثلة الواضحة على الغموض الغربي، ردة فعل فرنسا على انقلاب تشاد الربيع الماضي، فالجيش التشادي كان حليفاً مهماً في حرب فرنسا على "الإرهابيين" في المنطقة، وبدل إدانة استيلاء ديبي الشاب على السلطة، حضر الرئيس ماكرون شخصياً الجنازة الرسمية التي أقيمت لأبيه.
"إيكواس" تفرض عقوبات على منفذي الانقلاب في غينيا
فرنسا تتهم "فاغنر" الروسية بدعم المجلس العسكري في مالي
وقال فومونيوه، "عندما يأتي الرئيس الفرنسي إلى نجامينا للوقوف إلى جانب شاب يرتدي الزي العسكري قام لتوه بانقلاب، وهذا ما حصل، لكي يحل مكان أبيه الذي كان هو الآخر قائداً عسكرياً حكم البلاد لمدة 30 عاماً، فهذا يوجه رسالة سلبية للجهات المؤيدة للديمقراطية، ليس في تشاد فحسب بل في كل البلدان الأفريقية".
أدانت فرنسا بعدها الانقلابين العسكريين في مالي وبوركينا فاسو.
وفيما يختلف وضع مالي وغينيا وبوركينا فاسو إلى حد كبير عن وضع تشاد والسودان (حيث وقع انقلاب في عام 2019)، أشار المحللون إلى احتمال انتشار العدوى الانقلابات].
وتابع فومونيوه بقوله، "مثلاً بالنسبة إلى السودان، الجيش موجود في الحكم منذ ثلاثين عاماً ويريد التمسك بعاداته القديمة. وينطبق وضع السودان على تشاد المجاورة له حيث قبل الحكم العسكري كذلك باعتباره جزءاً من بنية الحكم".
أما باقي الدول، فتقوم بتجارب للحكم الديمقراطي منذ عقود عدة، حسب تعبيره. ولكن قد تجد جيوشها الحانقة من المشاكل الأمنية والاقتصادية والدستورية مصدر إلهام في جيرانها بالساحل الأفريقي [وتحذو حذوها] لكي تستولي على السلطة.
وشدد المحللون أنه على الرغم من الاحتفالات التي عمت الشوارع في أعقاب بعض الانقلابات العسكرية حديثاً، غالباً ما يخلف استيلاء الجيش على السلطة أضراراً تفوق منافعه.
وحذر تينه من أن الانقلاب العسكري "أحد عوارض أزمات الديمقراطية وليس حلاً لها".
وقال فومونيوه، "أسمع كثيراً من إخوتي وأخواتي في أفريقيا عن فرحهم بالانقلابات التي حصلت ولكنني أعتقد بأنهم مخطئون لأنه لا يمكنك الوثوق بأن يعالج الجيش المشاكل التي يعانيها المواطنون. كما لا يمكنك الوثوق بأن يعود إلى ثكناته".
وأضاف تشيزمان أن الانقلابات تضعف حكم القانون، وتبعث برسالة مفادها أنك "قادر على الإحكام على السلطة بقوة السلاح"، وهي غالباً ما تؤدي إلى أداء اقتصادي أسوأ وتخلق المزيد من الاضطراب وتفتح المجال أمام المزيد من الانقلابات.
ولكن كل هذا لا يعني بأننا لن نشهد المزيد منها، ولا سيما في الساحل.
إذ أوضح فومونيوه بأن "كل العناصر موجودة. ويصبح جزء من هذه المنطقة أكثر هشاشة، وهي ما زالت تواجه مخاطر خارجية من متطرفين عنيفين. وما زالت الجيوش متأهبة… ولا يمكن أن يستبعد المرء احتمال شعور بعض هذه الجيوش بالإغراء لكي تحذو حذو ما فعله زملاؤها في بلدان أخرى"، ورأى فومونيوه أن المأساة الحقيقية هي في ازدياد عدد الانقلابات العسكرية فيما تواجه الدول المعنية مخاطر خارجية حقيقية، وقال، "بدل قضاء وقتهم بإعادة النظر في الاستراتيجية العسكرية، أو القيام بتدريبات إضافية أو التمرس في مكافحة التطرف العنيف، من المؤسف أن بعض الضباط يقضون الوقت بالتخطيط للانخراط في العملية السياسية والوصول إلى المكتب الرئاسي بقوة السلاح".