يوم 1 يونيو 2021، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن في الذكرى المئوية الأولى لمجزرة توسلا في ولاية أوكلاهوما، «لم يكن الأمر يتعلق بتمرد، بل بمجزرة رهيبة»، هل سننتظر مئة سنة أخرى ليأتي رئيس أمريكي في 2123 ليقول للعالم إن مجازر إسرائيل في قطاع غزة خلال شهري أكتوبر ونوفمبر 2023 كانت إبادة جماعية وليس عقابا لتمرد حركة حماس.
التاريخ الأمريكي خلال القرنين الأخيرين هو تاريخ المغامرة السياسية والاقتصادية، التي جعلت من الولايات المتحدة إحدى أكبر الدول التي شهدها التاريخ، وتتزعم العالم حاليا وإن كانت هذه الريادة مهددة من طرف الصين، خلال الثلاثة عقود المقبلة. لكن هذا التاريخ في الوقت ذاته يبقى مليئا بالدم والمجازر والمآسي، سواء في الأراضي الأمريكية نفسها، أو خارجها تطبيقا لسياسة خارجية منحازة. ويقدم الأرشيف الأمريكي شهادات عن مجازر وقعت ضد الساكنة المحليين الأصليين، أي الهنود الحمر، مثل المجزرة الرهيبة «بير ريفر» يوم 29 يناير 1863 القريبة من بريستون في ولاية إيداهو، التي خلفت مئات القتلى في صفوف الهنود. ولا تقل عنها بشاعة مجزرة توسلا يومي 31 مايو و1 يونيو 1921 التي تعد من أسوأ المجازر العرقية في حق الأمريكيين السود في تاريخ الولايات المتحدة.
عندما تدعو واشنطن إسرائيل إلى استعمال قنابل صغيرة بدل الكبيرة وتتجنب عمدا المطالبة بوقف إطلاق النار، فهذا يسمى الانهيار الأخلاقي
اعتراف الرئيس الأمريكي بايدن خلال يونيو 2021 بفظاعة مجزرة توسلا ومجازر أخرى جاء بعد الهزة التي عاشتها الولايات المتحدة في أعقاب مقتل الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد سنة 2000 بطريقة عنيفة على يد الشرطة، ثم مساهمة حركة «حياة السود مهمة» في خلق وعي جديد في البلاد. ومن نتائج هذا الوعي هو مراجعة الجانب غير المشرف في التاريخ الأمريكي الخاص بالمعاملة العنصرية المؤسساتية والشعبية ضد السود الأمريكيين. وتبقى هذه المعاملة من المفارقات الكبرى، إذ كيف أن دولة تأسست في القرن الثامن عشر على أسس ديمقراطية، وعلى قيم مستوحاة من الإنجيل تتحول لاحقا إلى دولة لا تعاقب العنصرية، بل تتبناها بشكل رسمي كما حدث في بعض الولايات الجنوبية.
وارتباطا بهذا الوعي الوطني في رؤية التاريخ الأمريكي بشكل مغاير يقوم على الانتقاد وتصحيح الأخطاء، نتساءل: هل يمكن لهذه الرؤية الانتقادية أن تنتقل إلى العلاقات الخارجية، وتبدأ الولايات المتحدة في الاعتراف ليس فقط بأخطائها، بل بالجرائم التي تورطت فيها. وهنا لا نعني عمليات الاغتيال التي نفذتها الأجهزة الاستخباراتية، وهي كثيرة، بل عمليات التورط في حروب خلفت مآسي كبيرة، وأثرت في مسار التاريخ خلال القرن العشرين. وعلى رأس هذه المآسي حربا فيتنام والعراق. ويفترض أنه في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين تكون الولايات المتحدة قد استفادت من أخطاء الماضي، وتنهج سياسة متوازنة في الوقت الراهن، لاسيما وأنها ترفع شعار الديمقراطية وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان في مواجهة القطب الصيني – الروسي ضمن الصراع على ريادة وزعامة العالم. الوصف الدقيق لتصرف واشنطن في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ شهر هو «غير إنساني» وبالتصرف المرفوض والمدان أخلاقيا وقانونيا. كيف ترفض واشنطن هدنة وقف إطلاق النار وهي ترى أطفالا ونساء وشيوخا يموتون جراء القصف؟ كيف يمكن لواشنطن مطالبة إسرائيل باستعمال قنابل صغيرة وليس قنابل كبيرة وكأن القنابل الصغيرة لا تقتل، أو تعتبر القتل بالتقسيط أقل هولا على الرأي العام العالمي من القتل الجماعي؟ ألا تستحي واشنطن من نفسها وهي تدافع عن المدنيين في أوكرانيا ضد الغزو الروسي وفي المقابل تبرر القتل في قطاع غزة؟ إذا تأمل صناع القرار السياسي -العسكري الأمريكي ما يحدث في بلادهم، سيرون كيف خرجت عشرات التظاهرات في مختلف المدن الأمريكية للتنديد بجرائم إسرائيل، وكيف أصبح الجيل الحالي الذي يقل عمره عن 30 سنة يؤيد في مجموعه القضية الفلسطينية ويرفض بشكل قاطع التأييد الأعمى لواشنطن لسياسة الأبرتهايد، التي تمارسها إسرائيل. وتقف واشنطن على الانقسام الواضح الحاصل في إدارتها حول قطاع غزة، وأساسا في صفوف وزارة الخارجية بشأن الدعم اللامشروط لإسرائيل. وإذا تأملت واشنطن مستقبل العالم، خاصة منطقة الشرق الأوسط، ستدرك أن المستقبل مقلق للغاية، فهي ترى كيف تتقوى الحركات المسلحة مثل حزب الله والحوثيين وحركات أخرى في العراق، وهي تضع في أجندتها مواجهة إسرائيل عسكريا والانتقام من كل ما ارتكبته من جرائم ضد شعوب المنطقة، خاصة الفلسطينيين. لقد حمل وصول الإدارة الديمقراطية إلى البيت الأبيض آمالا لإنعاش عملية السلام بإقامة الدولتين، لكن الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن لم يراعيا في خطابهما الحد الأدنى من «الإنسانية»، بتركيزهما على تعزيز ترسانة أسلحة إسرائيل بمليارات الدولارات، وكأنه دعوة للطرف الآخر مثل حركة حماس وحزب الله بأن السلاح هو اللغة الوحيدة، ما سيجعلهما يرتميان أكثر وأكثر في حضن إيران. بطبيعة الحال، لن ينتظر العالم مرور مئة سنة لكي تعتذر واشنطن عن تورطها في جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين على شاكلة اعتذار مأساة توسلا، لأن الأوضاع ستتغير كثيرا، وستفقد الولايات المتحدة وزنها في المنطقة وبدأت تفقده تدريجيا. وعندما لا تقف الدولة الكبرى إلى جانب الحق والعدالة، فهي وقتها تفقد ما هو أخلاقي، وهذا هو الانهيار الحقيقي. عندما تدعو واشنطن إسرائيل إلى استعمال قنابل صغيرة بدل الكبيرة وتتجنب عمدا المطالبة بوقف إطلاق النار، فهذا يسمى الانهيار الأخلاقي. وعليه، نتساءل: هل انهيار واشنطن الأخلاقي في غزة هو بداية مسلسل انهيارها كقوة كبرى في العالم؟
كاتب مغربي