العراق يرمم تاريخه بالاعتذار للملوك والأميرات..التي تتكسر في جوف التاريخ:

اثنين, 29/04/2024 - 17:02

ليسوا وحدهم، ولا الأحياء في العراق، بل الموتى أيضا يبررون الاعتذار وإن يجئ متأخرا. وهذه المرة يحل 14 يوليو على البلاد التي تعسكرت في هذا التاريخ من عام 1958 ولغاية هذه اللحظة، لتستر ما تستطيع من أخطاء تحملتها وحملتها الزمر والمجموعات والأحزاب والحركات ودهاليز التعذيب والأصوات المكنوسة في عمق التاريخ وتردد الحكي وآلام من انسلخت الحياة من أنفاسه.

ولكي يضيء من تبقى الشمعة المتاحة، للملوك والأميرات اللواتي جمـّـلن أجنحة القصور الملكية وأبهجن صروح الأيام الزاهية التي مرت على البلاد، فالطريق إليهم أجمعين سالكة، مرتبة، تحت تلك القباب التي حلم الملك فيصل الأول بتحويلها الى الجامعة الأولى في العراق تحت مسمى «جامعة آل البيت»، والتي رعاها بجهود من سبق زمانه الأستاذ فهمي المدرس والمنتشرة في قلب الأعظمية ببغداد.

عندما باشر مهندسو العهد العراقي الزاهي، بعد تأسيس الدولة مطلع العشرينات، حفر أساس كلية العلوم، عثروا على بقايا عظام الخلفاء العباسيين الذين اختاروا هذا المكان الذي كان أمراء الفرس يتخذونه مقبرة لهم.

بعدها سميت «مقبرة الخيرزان» باسم من دفن فيها، لكن دفن أبو حنيفة ثابت بن النعمان فيها وما حصل بانتشار مذهبه، جعل التاريخ يطلق عليها مقبرة الإمام الأعظم، الذي أهدى بدوره اسم الأعظمية للمنطقة التي كانوا يطلقون عليها «الرصافة» والتي اتفق البغداديون حتى الآن على تسمية الضفة الأخرى المقابلة للكرخ بهذه التسمية.

مرارة زمن

والمقبرة التي تضم رفات كل ملوك العراق أهملت قرنا بأكمله، وغضت البلاد النظر عن الدور الكبير الذي لعبه سكانها في تأسيس العراق الراهن.

 

بداية تشييد المقبرة تم في عهد أمين عاصمة بغداد أرشد العمري الذي أراد تقليد قبة جامع الحيدرخانة، غير أن المعماري لم ينجح تماما في تصويرها وتنفيذها، ومع ذلك فإن لها هيبتها التصميمية الكافية.

وأراد المصمم أيضا في مخططه الهندسي، أن تهيمن المقبرة على سواها من البنايات القريبة، كونها تحمل كل التاريخ العراقي المعاصر تقريبا، واختيار القبة وشكلها، كونها مقبرة، فيما تتكون بمجملها من ثلاث صالات اسطوانية تسقفها قبب من المرمر الإيطالي. ويبلغ ارتفاع القسم المركزي 22 مترا يحيطها 12 محرابا كالفجوات المنسابة للداخل عرض الواحدة 7.1 متر وعمقها متران.

البداية

 

 

كان لكل ملك وأميرة حكاية مع الموت، لكن تاريخ المقبرة الملكية في العراق بدأ بوفاة الملك فيصل الأول (1885 - 1933) بنوبة قلبية في بيرن السويسرية في 8 سبتمبر في العام المشار إليه، حيث نقل جثمانه ودفن في 15 سبتمبر في حديقة «جامعة آل البيت» في الأعظمية التي أراد لها أن تكون الصرح العلمي والثقافي الأول في العراق.

وبعد مقتل ثاني ملوك العراق غازي ( 1912 - 1939 ) في الرابع من أبريل، نقل الى قصر الزهور في الحارثية وفي الليل دفنوه في بستان البلاط الملكي بعد أن فحصه طبيبه الخاص سندرسون والدكتور صائب شوكت والدكتور كمال عارف، وبعد فترة نقلوا جثمانه الى المقبرة التي أصبحت ملكية.

أما ثالث وآخر ملوك العراق فيصل الثاني ( 1935 - 1958) فقد عاش في قصر الرحاب مع الوصي على العرش عبد الإله بن علي الذي بناه بعد الشؤم الذي شعرت به العائلة المالكة من قصر الزهور الذي شهد وفاة الملكين فيصل الأول وغازي والأميرة عالية.

الخاتمة الدموية

وفي صبيحة 14 يوليو الدموية كان يسكن قصر الرحاب الى جانب الملك فيصل الثاني الوصي عبد الإله وأمه نفيسة وأخته الأميرة عابدية والأميرة هيام زوجته وجدة الملك فيصل الثاني لوالدته. وبعد الهجوم على القصر الملكي خرج الملك الشاب وهو يحمل منديلا أبيض والأميرات بملابس النوم يرفعن القرآن، ومع ذلك قام النقيب عبد الستار سبع العبوسي بفتح نيران رشاشه عليهم وقتلهم جميعا، عدا الأميرة هيام التي زحفت من بين الفوضى مع خادمتها رازقية وغادرتا المكان بأعجوبة.

أصيب الملك فيصل في رأسه وعنقه ولم يمت مباشرة، بل بقي ينزف حتى توفي. بعدها نقله المنتصرون ليدفنوه في حديقة مهجورة في معسكر الرشيد، لكن أحمد فوزي عبد الجبار أرشد على قبره وفي واحدة من زيارات الملك حسين الى العراق، نقل جثمانه ليدفن قرب والده الملك غازي في المقبرة الملكية.

أما قصر الرحاب، فقد جلب المآسي للعراقيين منذ 14 يوليو الدموي الذين أطلقوا عليه «قصر النهاية» لكثرة الذين أعدموا وعذبوا فيه، واستمر المكان يحمل الشؤم على الرغم من إزالته بعد إعدام سيده ناظم كزار، حيث بنوا محله رئاسة المخابرات التي انحلت بعد سقوط النظام. فيما قتل كل أبطال هذا اليوم الذي سحقت به العائلة المالكة بلا رحمة، فقد أعدم عبد الكريم قاسم وأحرق عبد السلام عارف ومعه عبد اللطيف الدراجي وانتحر عبد الستار العبوسي في ظروف غامضة في البصرة عام 1969، وأعدم ناظم الطبقجلي وعبد الوهاب الشواف ورفعت الحاج سري وكل المشاركين الرئيسيين في أحداث هذا اليوم.

ملوك وأميرات

 

 

في المقبرة الملكية ثمانية أضرحة للعائلة المالكة وهم: الملك فيصل الثاني والملكة خديجة زوجته وابنة عمه التي تزوج منها في العشرين من عمره والملك غازي والملك فيصل الثاني والأمير علي بن الحسين (1880 - 1935) أخ الملك فيصل الأول والملكة عالية (1911-1950) زوجة الملك غازي وبنت الأمير علي بن الحسين والأميرة رفيعة بنت الملك فيصل الأول والأميرة جليلة بنت الأمير علي بن الحسين.

وثمة ضريحان لأكثر شخصين مقربين للعائلة المالكة وهما لرستم حيدر رئيس التشريفات الملكية ووزير المالية الذي قتل من قبل أحد أفراد حمايته عام 1940 وجعفر العسكري أول وزير دفاع للمملكة العراقية الذي اغتيل في انقلاب عسكري نظمه بكر صدقي عام 1936.

 

أسوار الملوك

 

 

لقد ساعدت العلاقات الثمانينية الجيدة التي ربطت رأس النظام السابق بالمملكة الأردنية والملك حسين بالذات، الى إعادة بعض اعتبار العائلة المالكة، حيث أقيم تمثال لمؤسس الدولة العراقية الملك فيصل الأول، لم يمسه أحد بعد سقوط النظام، كدليل على احترام الشعب العراقي لزمن الملوك والملوك أنفسهم.

 

وعلى الرغم من الاهتمام الظاهري في الثمانينات بالمقبرة الملكية، لاسيما أيام زيارات الملوك والأمراء، فإن صدام منع انتشار تقليد زيارة المقبرة الملكية واعتنى ببناء أضرحة لعائلته، غير ان الأقدار حملته في يوم التاسع من أبريل المشهود ليختبئ بها بعض الوقت، قبل أن ينسل ليلا من الأعظمية.

 

ويعتزم قادة العراق الجديد رد الاعتبار الكامل للعائلة المالكة وإعادة هيبة المقبرة الملكية وتاريخ تلك الحقبة. غير أنهم لم يتفقوا حتى الآن على الهيئة التي تقوم بذلك، فوزارة الثقافة لا تعتني بالقبور ولا تضعها ضمن دائرة الآثار، ولا تجردها ضمن الملامح المعمارية والتاريخية للبلاد، كما يفعلون مع الكرملين، مثلا، وآثار الملوك في دول أوروبا والعالم المتحضر.

 

وإذا كانت المقابر في العهد السابق من اختصاص وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فإن هذه الوزارة قد ألغيت، وحلت محلها هيئتان واحدة للوقف السني وأخرى للشيعي، ولابد الآن من التأكد والتمحيص فيما إذا كان ملوك وأمراء وأميرات العراق شيعة أو سنة، لكي يتفقوا على رعاية الحديقة وتنظيم وصول المياه إليها والكهرباء، لزوارها الذين بدأوا يتكاثرون، ما إن بدأ التاريخ يرمم ويصحح نفسه بنفسه.