ترامب: رئيس خارج السياق في عالمٍ متغير السياقات

سبت, 15/02/2025 - 16:34

ليس من قبيل المبالغة القول إن العالم بأسره كان يترقب بين التشوق والخوف، حابساً أنفاسه، مقدم ترامب، العائد لينتقم، الذي أتى في غيمةٍ من البروق والرعود الهادرة الواعدة بتغيير كل شيءٍ، وهدم المعبد لإعادة بنائه، وفق ما يراها أسساً صحيحة، إلا أنني أزعم أن الرجل أثبت أنه أكثر مقدرةً على الإزعاج مما كان أي منا يتصور؛ ففي غضون أسابيع، وفي خطى متسارعة أقدم على قول وفعل (أو على الأقل محاولة ذلك) ما لم يجرؤ عليه أي رئيسٍ أمريكي آخر في التاريخ القريب، أو الذي يذكره أحد. ليس من شكٍ في أن ذلك يروق له، بتكوينه الشخصي والفكري، تماماً، فهو الممتلئ بنفسه حد الانفجار، المتوله عشقاً بذاته، الذي يرى تطابقاً أكيداً بين رؤاه ومصلحته الشخصية والصالح العام، وما يجب أن يكون، يتحرى دائماً في كل ما يفعل أن يثبت للمحيطين، بل للعالم أجمع تفرده وجرأته.

هو يشبه كثيراً أشخاصاً لا بد أن كثيراً منا صادفهم أو احتك بهم في الحياة العامة يرون في أنفسهم ذكاءً خارقاً، وفهماً لا يتوفر لغيرهم، ما يتيح لهم أن يحلوا المشاكل العالقة التي استعصت على كل سابقيهم وأقرانهم.

من هنا استحق ما وصفه به البعض من أنه خارج السياق المعتاد والمألوف والطبيعي للرؤساء الأمريكيين السابقين، وعلى الأغلب (ونتمنى!) اللاحقين، وليس أدل على ذلك في ما يخصناً تحديداً في الشرق الأوسط من تلك «التفنينة» أو الحل اللوذعي الذي أتى به، والذي يقتضي تهجير الفلسطينيين من أهل قطاع غزة إلى مصر والأردن، وتطوير القطاع عقارياً ليصبح كـ»الريفييرا»، أما في ما يخص العالم فحدث ولا حرج فقد تحرش بعددٍ لا بأس به من الدول وعلى رأسها جارتاه إلى الشمال والجنوب، كندا والمكسيك. لكن ترامب في نهاية المطاف مُنتخب، أي أن غالبيةً ما من مواطني هذا البلد، الذي لم يزل الاقتصاد الأكبر في العالم والقوة العسكرية الأولى بامتياز، ارتأوا فيه الشخص المناسب ليقود: هنا تكمن المشكلة وهذا ما ينبغي أن يكون محل التساؤل والبحث ومحاولة التفسير.

ثمة شرخٌ عميقٌ يزداد اتساعاً وعمقاً في المجتمع الأمريكي، بين قلة من الأغنياء وميسوري الحال، وغالبية من المواطنين تزداد حياتهم صعوبة وتتضاءل قدرتهم الشرائية عن توفير حاجياتهم

في رأيي أن السبب الأساسي يكمن في أن «السياق» برمته يتغير، داخلياً على المستوى الاجتماعي والاقتصادي في الولايات المتحدة وفي العالم. ثمة شرخٌ عميقٌ يزداد اتساعاً وعمقاً في المجتمع الأمريكي، بين قلة من الأغنياء وميسوري الحال، وغالبية من المواطنين تزداد حياتهم صعوبة وتتضاءل قدرتهم الشرائية عن توفير حاجياتهم، فهم ينزلون درجاتٍ في السلم الاجتماعي وتضيق بهم الحال، ويدركون ذلك؛ أضف إلى ذلك قضايا الهوية كالقناعات الدينية، التي تصل حد الهوس أحياناً كتهيئة المسرح مثلاً انتظاراً للعودة الثانية للسيد المسيح، بما يقتضي تحقق الشرط الأساسي المتمثل في عودة اليهود إلى فلسطين، وغير ذلك من المسائل العرقية التي تتمثل في خوف العرق الأبيض، الذي كان الأغلب فها هو تتراجع سيادته أمام الأعراق الأخرى وعلى رأسها «اللاتينيون» من سكان أمريكا الجنوبية؛ كل ذلك لا يتم في فراغ، بل في ظل ظرفٍ عالميٍ انتهت فيه الأحادية القطبية، وسيادة أمريكا غير المنازعة، التي كانت عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، وحيث لم تنهزم روسيا في الحرب، والأهم من ذلك صعود الصين المطرد، حيث ستصبح الاقتصاد الأكبر، بالإضافة إلى قدراتها العسكرية المتعاظمة، التي قد تنجح في سد الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة، بالإضافة إلى دولٍ أخرى كالهند والبرازيل، يتعاظم حجمها ودورها ونفوذها يوماً بعد يوم. لقد نبت ترامب في هذا الشرخ، فهو التعبير عن هذه الأزمة وذلك الشعور بالخوف والتهديد وتراجع الدور، بعنجهيته وتعاليه وعنصريته، فهو يمثل الناقمين على وضعهم الاقتصادي الحرج، والبيض المهددين اقتصادياً وعرقياً، والذين فقدوا وظائفهم من ذوي «الياقات الزرقاء» في ما يطلق عليه «حزام الصدأ» حيث أغلقت وهُجرت المصانع جراء نقل الصناعات إلى الصين، حيث العمالة الأرخص. لا شك أن الصورة أكثر تعقيداً ومتعددة الطبقات بما يتخطى مقدرة مقالٍ على إيجازها، إلا أنه يكفي للتدليل على التعقيد واختلاط الأوراق تأمل تلك المفارقة الصارخة المتمثلة في انتخاب هؤلاء الناقمين الساخطين لملياردير، رجلٍ ينتمي متأصلاً إلى الطبقة التي تسببت مباشرةً في وضعهم، والتي استثمرت في إفقارهم وتجهيلهم، وشجعت أو على الأقل هادنت واحتفت ببث الأفكار الدينية الخرافية الجاهلة المُجهلة.

لقد التقى شعور الطبقة الحاكمة الأمريكية بالتهديد والخوف على مصالحها، في ظل انحسار الدور الأمريكي، أو الإيذان بالتراجع، مع نقمة قطاعاتٍ عريضة تشعر بالتهديد من تدنى مستويات المعيشة وضجرها بالصوابية السياسية في قضايا يرونها لا تعنيهم، بل لعلهم يعادونها كالمثلية الجنسية وحرية العقيدة مثلاً. لقد خاطب ترامب هؤلاء فانتخبوه.. انتخبوه من جيوبهم وبصوت غضبهم وخوفهم من المستقبل.

كالوحش المهدد الذي يضرب بكل عزمه يميناً ويساراً لفرض الحضور والإرادة، أقدم ترامب على شيءٍ مماثل، بما يشمل ضرب مؤسسات الدولة التي يراها معرقلةً أو عديمة الجدوى في أحسن الافتراضات. من رحم تلك التركيبة السامة من تضافر شخصيته العجيبة الطافحة نرجسية، ومصالحه ومصالح الطبقة الحاكمة والإحساس بأن السياق العالمي المتغير يفرض حلولاً جديدة، لم يكن ليجرؤ أحدٌ على التفكير فيها سابقاً ناهيك من طرحها ولد ذلك الاقتراح البذيء والغبي بتهجير الفلسطينيين، في جملة الغباوات الصدامية الشبيهة.

لن يتوقف ترامب ومن حوله عن اقتراحاتهم ومحاولاتهم، فهي ليست عارضةً، بل ستستمر ما استمرت الأزمة والتمزق الضاربان في عمق المجتمع الأمريكي، وقد نرى ونسمع المزيد من الحماقات كلما غربت الشمس الأمريكية. في المقابل فإن ما ينبغي أن يشغلنا هو انعكاس ذلك على دولنا وما يمليه علينا ذلك الظرف في ضوء الخيارات الاستراتيجية والانحيازات طيلة عقود وهوما سأتناوله في مقالٍ قادم.

كاتب مصري