
تُبدي الجزائر في إطار سياستها المعلنة بتنويع اقتصادها وتوسيع صادراتها خارج قطاع المحروقات، رغبة في تعزيز حضور منتجاتها وخدماتها في الأسواق الإقليمية المجاورة، خاصة في ليبيا وموريتانيا اللتين تمثلان فضلا عن ذلك، عمقا إستراتيجيا يتجاوز الأبعاد الاقتصادية بكثير.
ويأتي هذا التوجه في سياق جهود تبذلها الحكومة الجزائرية لتحسين أداء التجارة الخارجية وتنشيط العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار في ظل سياق إقليمي تميزه الاضطرابات والخلافات في أكثر من مكان، وهو ما يجعل من التعاون مع دولتي موريتانيا وليبيا مسألة حيوية في دعم الاقتصادات المحلية، بما يضفي التوازن على المنطقة.
ولسي في هذا الإطار، ترأس وزيرُ التجارة الخارجية وترقية الصادرات، كمال رزيق، نهاية الأسبوع الماضي، اجتماعا تنسيقيا مع المتعاملين الاقتصاديين المصدرين للسوق الليبية، وذلك بمشاركة محافظ بنك الجزائر، والمفوض العام لجمعية البنوك والمؤسسات المالية، وعدد من مسؤولي الوزارة وممثلي المنظمات الاقتصادية. وشكّل اللقاء فرصة لتبادل الرؤى حول التحديات الميدانية التي تواجه المصدرين نحو ليبيا، وبحث السبل الكفيلة بتسهيل انسياب السلع والخدمات الجزائرية نحو هذه السوق التي توصف بالواعدة.
وأكد الوزير في هذا الشأن، التزام مصالحه بمرافقة المتعاملين وتذليل العقبات، لاسيما في ما يتعلق بالدعم اللوجستي وتحسين الإطار التنظيمي وتأمين المعاملات بالتعاون مع القطاع المالي والمصرفي. كما شدد على أهمية السوق الليبية كامتداد طبيعي للصادرات الجزائرية، داعيا إلى بناء شراكات اقتصادية دائمة تتجاوز الطابع التجاري البسيط.
وكانت التجارة بين الجزائر وليبيا قد شهدت تطورًا تدريجيًا، إذ قفز حجم المبادلات من نحو 31 مليون دولار في 2018 إلى حوالي 59 مليون دولار في 2020، ثم إلى نحو 65 مليون دولار بحلول 2021، من بينها 59 مليون دولار صادرات جزائرية إلى ليبيا. رغم ذلك، ظل هذا الرقم ضئيلًا مقارنة بالإمكانات المشتركة، وهو ما دفع حكومتي البلدين إلى إطلاق خطة طموحة تهدف إلى رفع حجم التبادل إلى نحو 3 مليارات دولار سنويًا، عبر تسهيل النقل البري من خلال فتح معبر “الدبداب- غدامس”، والنقل البحري، وإنشاء منطقة تجارية حرة وتعزيز التعاون المصرفي. كما عقدت الجمارك اجتماعات لتفعيل اتفاقية تعاون جمركي وإنعاش العمل عبر المعابر، بهدف مكافحة التهريب وتسهيل مرور البضائع على شريط حدودي يصل طوله إلى 900 كلم.
أما على صعيد العلاقات مع موريتانيا، فقد شكل معرض المنتجات الجزائرية بنواكشوط، الذي نُظم من 22 إلى 28 أيار/ مايو 2025، منصة لتعزيز الحضور الاقتصادي الجزائري في هذه السوق.
وأسفر المعرض عن توقيع أكثر من 40 مذكرة تفاهم بين شركات جزائرية وموريتانية تنشط في قطاعات متعددة، مثل المواد الغذائية، ومواد التنظيف، والمنتجات البلاستيكية، والمستلزمات الطبية، والبناء، والنسيج، والكهرباء، والإعلام الآلي. وشاركت في هذه الاتفاقيات 43 شركة جزائرية عمومية وخاصة، إضافة إلى منظمات وهيئات متخصصة في التجارة والتصدير والتنمية.
وأظهرت طبيعة الاتفاقيات الموقعة وجود تنوع قطاعي كبير يعكس الطموح الجزائري في أن لا تقتصر الصادرات على مواد أولية أو استهلاكية محدودة، بل تشمل منتجات صناعية وخدمات ذات قيمة مضافة. كما أبرزت هذه المبادرات رغبة متبادلة في تعزيز التكامل الاقتصادي من خلال آليات تعاون مؤسسي ومنظم.
وشهدت المبادلات التجارية بين الجزائر وموريتانيا تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، خاصة بعد فتح المعبر الحدودي البري “الشهيد مصطفى بن بولعيد” في آب/ أغسطس 2018، حيث تشير تقارير رسمية إلى أن حجم المبادلات التجارية بين البلدين بلغ 414 مليون دولار عام 2023، بزيادة قدرها 82 % مقارنة بـ 297 مليون دولار في 2022.
ومع التحضير لفتح الطريق الاستراتيجي الرابط بين تندوف والزويرات، والذي يبلغ طوله أكثر من 800 كلم، يتوقع أن يشكل هذا المشروع نقلة نوعية في انسيابية البضائع نحو العمق الإفريقي. كما ينتظر أن يعزز إنشاء المنطقة الحرة على الحدود، التي تم الاتفاق بشأنها بين الطرفين، من جاذبية الاستثمار ويمنح المنتجات الجزائرية منفذاً دائماً ومهيكلاً نحو السوق الموريتانية والأسواق المجاورة، في إطار رؤية أوسع لربط الجزائر بمحيطها الإفريقي اقتصادياً.
وتأتي هذه التحركات في وقت تستعد الجزائر لإطلاق هيئتين جديدتين لتنظيم وتسيير عمليات التصدير والاستيراد، وهي الخطوة التي ستشرف عليها رئاسة الجمهورية بشكل مباشر من خلال اجتماع وزاري مصغر مرتقب خلال الأيام القليلة المقبلة. ووفق بيان لمجلس الوزراء، فإن الرئيس عبد المجيد تبون، أعطى تعليمات دقيقة بضرورة ضبط النصوص القانونية للهيئتين بما يتماشى مع المعايير الدولية ويضمن استقرارًا طويل المدى في آليات التبادل التجاري. وقد تم التأكيد على أهمية التنسيق التام بين وزارة التجارة الخارجية والبنك المركزي والجمارك لتطوير منظومة مراقبة فعالة تضمن حماية الإنتاج الوطني وتوجيه عمليات الاستيراد وفق الحاجات الاقتصادية الحقيقية. كما وجّه الرئيس بوضع مواصفات صارمة للمصدّرين والمستوردين واستحداث آليات جديدة مثل تعاونيات الشراء الجماعي من أجل تنظيم السوق وتحقيق الشفافية والفعالية.
وتدعم هذه الإصلاحات الهيكلية معطيات إيجابية يقدمها البنك الدولي بشأن أداء الاقتصاد الجزائري، خصوصًا في ما يتعلق بالنمو خارج قطاع المحروقات. فقد كشف الخبير الاقتصادي المكلف بالجزائر لدى البنك، سيريل ديسبونتس، أن الناتج الداخلي الخام خارج المحروقات سجل نموًا بنسبة 4.8 بالمئة سنة 2024، مدفوعًا بالانتعاش في الاستهلاك الخاص والاستثمار وتراجع التضخم، الذي انخفض من 9.3 بالمئة في 2023 إلى 4 بالمئة في 2024.
ويعود هذا التحسن جزئيًا إلى الأداء الجيد للقطاع الفلاحي، الذي أسهم في استقرار أسعار المواد الغذائية رغم صعوبات مناخية. كما أشار تقرير البنك الدولي إلى أن الجزائر مرشحة لتحقيق انتعاش إضافي في صادرات المحروقات خلال 2025، مستفيدة من ارتفاع الحصص الإنتاجية ضمن منظمة أوبك+.
في المقابل، شدد التقرير على ضرورة تسريع التحول الهيكلي وتحسين الإنتاجية في قطاعات مثل الصناعة التحويلية والخدمات، بما يضمن تحقيق نمو مرن ومتنوع. واعتبر أن الانتقال نحو قطاعات ذات قيمة مضافة أكبر، إلى جانب إصلاحات موجهة لتشجيع الاستثمار الخاص، سيكون حاسما لبناء اقتصاد أكثر قدرة على مواجهة الصدمات الخارجية.