مما لاشك فيه أن العالم اليوم أصبح أكثر إدراكا لأهمية التعلم باللغة الأم؛ فبعد التجارب والدراسات التي تناولت الموضوع بإسهاب وعن كثب تبين أن التعلم باللغة الأم يعد الحافز الأول على الإبداع والمعين الجوهري والسند المتين في اكتساب العلوم والمعارف، وهذا ماتنبهت له الدول الرائدة في مجال التنمية والتي لزمت في تعليمها لغاتها الأم وركزت عليها في تعاملاتها لإدراكها أهمية ذلك في نهضتها التنموية.
إن أهمية التدريس باللغة الأم أصبح أمرا محسوما بفعل التقارير والدراسات التي تؤكد ذلك وتؤيد اعتماده وتوصي به، حيث أوصت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة- اليونسكو- أثناء تخليدها لليوم العالمي للغة الأم في 21فبراير 2016 بضرورة التدريس باللغة الأم كاشفة في تقاريرها حول الموضوع "أن أفضل الدول الرائدة عالميا تدرس بلغاتها الأصلية" كما أكدت دراسات أممية أخرى أن 19 دولة تتصدر العالم تكنلوجيا يرتكز تعليمها على اللغة الأم وعليها يرتكز البحث العلمي.
وفي دراسة حديثة أجريت حول أفضل 500 جامعة عالمية في 35 دولة تبين أنها جميعا تدرس بلغاتها الأم.
هذا لا يعني أن اللغات الثانية أو الأجنبية ليست بذات الأهمية وإنما يؤكد على أهمية ومحورية اللغة الأم بوصفها مكمن قوة وعامل أساسي في صنع مستقبل زاهر وآمن، وهنا يتنزل فحوى خطاب المديرة العامة لليونسكو سابقا -ايرينا بوكوفا التي قالت: "يجب علينا الإقرار بهذه القوة الكامنة في اللغات الأم وتعزيزها كي لا يتخلف أحد عن الركب، ومن أجل صنع مستقبل أكثر عدلا واستدامة للجميع. إن اللغات هي الأدوات الأقوى التي تحفظ وتطور تراثنا الملموس وغير الملموس، لن تساعد فقط كل التحركات الرامية إلى تعزيز نشر الألسن الأم على تشجيع التعدد اللغوي وثقافة تعدد اللغات، وإنما ستشجع أيضا على تطوير وعي أكمل للتقاليد اللغوية والثقافية في كل أنحاء العالم، كما ستلهم في تحقيق التضامن المبني على التفاهم والتسامح والحوار، وتحظى اللغات بثقل استراتيجي مهم في حياة البشر والكوكب بوصفها من المقومات الجوهرية اللغوية وركيزة أساسية في الاتصال والاندماج الاجتماعي والتعليم والتنمية، ومع ذلك فهي تتعرض جراء العولمة إلى تهديد متزايد أو إلى الاندثار كليا".
وتشير دراسات أجريت على تجربة ماليزيا الاقتصادية والصناعية، التي حققت لها نهضة متميزة في العالم، وهي التي تمثلت في مشروع اعتماد اللغة الإنجليزية في تعليم مبادئ العلوم والرياضيات بدل اللغة الماليزية، ووصف هذا المشروع بأنه «التنازل الأهم في مسيرة الصناعة الاقتصادية الماليزية».
وبعد 6سنوات من التجربة قررت ماليزيا إيقاف مشروع تدريس الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية والعودة إلى التدريس باللغة الماليزية «المالوية»، وحسب ماجاء في القرار فإن السبب هو أن الدراسات التي أجريت على أكثر من 10 آلاف مدرسة أثبتت فشل التجربة وأن التدريس بالإنجليزية (غير اللغة الأم) أدى إلى تدهور مستوى الطلبة على المدى البعيد، وتدهور في مستوى أدائهم في الرياضيات.
إن هذه المعطيات لا تقلل من أهمية التعليم ثنائي أو متعدد اللغة ودوره في الانفتاح على العلوم والتكنلوجيا، لكن الخبراء اللغويين والتربويين ينصحون بالتعليم الأساسي باللغة الأم، ومن ثم البدء في تعلم لغات ثانية في سن أكثر تأخرا، وهذا مايؤكه العالم اللغوي الأمريكي -ليوناردو بلومفير الذي يذهب إلى أن تعلم لغة إضافية له فوائد كثيرة، ويشير إلى أن أحسن سن للبدء في تعلم لغة ثانية هي بين 10و12 سنة، فإذا تم البدء قبل ذلك فإن العملية التعليمية غالبا ماتكون بطيئة وغير مجدية، ويوضح أن إتقان الطفل لأكثر من لغة يكسبه قدرات على التحليل والربط والقياس والاستنتاج والتفكير والتعبير عن المفاهيم بطريقة مختلفة يتقنها نتيجة تعلمه لغتين، وهذا ما لا يتوفر للتلميذ الذي يتعلم لغة واحدة.
إن تتبع الدراسات والنقاش الدائر حول أهمية التعليم باللغة الأم يظهر أنه شغل حيزا كبيرا من تفكير الخبراء وشكل شغلا شاغلا للمنظمات الناشطة في المجال، والتي أوصى أغلبها بالتركيز على التعلم باللغة الأم واكتشاف مكنوناته الإيجابية، ومهما اتجهنا في تتبعنا لذلك نجد الأمثلة واضحة وجلية، ونجد أن أمما وحضارات قامت من الركام وهي الآن تنافس في المقدمة وتحتل الريادة في مجالات كثيرة وصلت ذلك بلغتها الأم، ونجد مثالا على ذلك الألمان واليابانيون وغيرهم..
فهؤلاء أدركوا قيمة التعلم باللغة الأم وانتهجوه لمالمسوا فيه من تحفيز على إنتاج حصيلة علمية وعملية للفرد ومن خلاله المجتمع.. فلم يترك اليابانيون والألمان الذين استسلموا في الحرب العالمية الثانية ودمرت بلادهم ونهبت، كل ذلك لم يدفعهم إلى ترك لغاتهم الأم لصالح المنتصر.
ونجد من الأمثلة التي لاحصر لها على التمسك باللغة الأم والاهتمام بها أن السويد مثلا لم يتركوا لغتهم لصالح الإنچليزية رغم قلة عددهم وهيمنة لغة خصمهم، بل حافظوا عليها واعتمدوها وافتخروا بذلك، فتمتعوا في بلدهم بدرجات رفيعة من الرقي والتحضر، ومثلهم كثير.
ومما لا شك فيه ولا جدال أن الإحساس بأهمية اللغة العربية من قبل الناطقين بها يعطيها القيمة الحقيقية، كما أن شعورهم بأهميتها واعتزازهم بذلك يدفعهم للحفاظ عليها، ومن هنا علينا جميعا أن ندرك أهمية اللغة العربية (اللغة الأم لمجتمعنا) في التحصيل العلمي ومحوريتها في التطور المعرفي، هذا لايعني أن اللغات الأخرى لا تشكل سندا مهما للأفراد والمجتمعات وأن إتقانها مفيدا ومكملا هاما.