من المؤكد بأن المتابع للشأن العام سيجد صعوبة كبيرة في اختيار الموضوع الذي يكتب عنه في أيامنا هذه، فهل يكتب عن الانفلات الأمني الذي وصل إلى مستويات مخيفة مع حرق الضحايا ورميهم في الشارع؟ أم يكتب عن كارثة ديون الشيخ الرضا والتي وصلت إلى المرحلة الحرجة مع بدء الاحتكاكات بين الملاك الأصليين والملاك الجدد؟
تتشابك المواضيع وتتعدد الملفات، ومع ذلك فقد يكون من الضروري جدا أن نتوقف قليلا مع خبر قصير نشرته الوكالة الموريتانية للأنباء يوم الجمعة الموافق 22 فبراير 2019، يقول الخبر: " أعلنت رئاسة الجمهورية أنه بموجب مقرر صادر اليوم الجمعة، تم تعيين السيد سيد أحمد ولد باب ولد السالك، مفتشا عاما للدولة".
للتذكير فإن المفتش المعين بمقرر من الرئاسة كانت قد تمت إقالته من مفوضية الأمن الغذائي يوم الأربعاء الموافق 17 يونيو 2015، وذلك بعد تسريب صور شاحنة تتبع للمفوضية، كانت تفرغ حمولتها من المواد الغذائية أمام منزل قيل أن ملكيته تعود للرئيس محمد ولد عبد العزيز.
قبل تعيين المفتش الجديد بثلاثة أسابيع تم تعيين السيد محمد الهادي ماسينا رئيسا لمجلس إدارة ميناء تانيت، وللتذكير أيضا فإن السيد محمد الهادي ماسينا كان قد تم اعتقاله يوم الجمعة الموافق 12 فبراير 2016، وكان يومها يشغل منصب الأمين العام لوزارة الداخلية، وقد تم اعتقاله بعد إدانة شركة بريطانية من طرف القضاء لبريطاني بتهم تتعلق برشوة مسؤولين أفارقة، كان من بينهم الهادي ماسينا.
الطريف في الأمر أن هذا الموظف الذي تم اعتقاله في ملف فساد، هو نفسه الذي كان قد تم توشيحه باسم رئيس الجمهورية في يوم 14 يناير 2015 بوسام ضابط في نظام الاستحقاق الوطني!
وحتى لا نظلم المفتش العام للدولة ورئيس مجلس إدارة ميناء تانيت، فإليكم بعض الحالات المشابهة التي كنتُ قد جمعتها في وقت سابق.
(1)
في يوم الخميس الموافق 26 أغسطس 2010 تم إنهاء مهام السيد محمد الأمين ولد داده، مفوض حقوق الإنسان و العمل الإنساني والعلاقات مع المجتمع المدني، وذلك بموجب مرسوم صادر عن الرئاسة، وفي يوم الأحد 10 يونيو من العام 2012 تم الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع غرامة قدرها 76 مليون أوقية، وفي يوم الأربعاء 26 دجمبر 2012 تم الإفراج عنه بحرية مؤقتة، وذلك من قبل أن يكمل سنواته الثلاث، وفي يوم 15 أغسطس من العام 2016 تم تعيينه مكلفا بمهمة في الرئاسة.
(2)
في العام 2006 تمت إقالة با يحيى بوكار من وظيفته بالبنك المركزي، وفي العام 2009 تم تجريده من رئاسة اللجنة المركزية للصفقات بسبب تهم تتعلق بالفساد حسب ما تداولته الصحف والمواقع في ذلك الوقت. وفي يوم 14 فبراير من العام 2013 تم تعيين هذا الموظف المجرد من مهامه وزيرا للإسكان والعمران والاستصلاح الترابي.
(3)
في البيان الصادر عن مجلس الوزراء المنعقد يوم الخميس 24 مارس 2011 تم إعفاء السيد عبد الدايم ولد المصطفى من مهامه كحاكم لمقاطعة انبيكت لحواش هذا الحاكم الذي تم إعفاؤه من مهامه في ذلك التاريخ سيتم تعيينه بعد ذلك حاكما لمقاطعة ألاك.
(4)
في يوم الخميس الموافق 26 أغسطس 2010 تم إنهاء مهام الدكتور محمد ولد عيه الذي كان حينها يشغل وظيفة مدير عام للمستشفى الوطني. هذا المدير الذي تم إنهاء مهامه رشحه الحزب الحاكم في انتخابات 2013 و2018، وهو الآن نائب في الجمعية الوطنية.
(5)
في يوم الخميس الموافق 19 نوفمبر 2009 تم تجريد مدير الميزانية السيد زيني ولد أحمد الهادي من مهامه، هذا الموظف المجرد من مهامه تم تعيينه من بعد التجريد مديرا لقطاع الدراسات والبرمجة في منطقة نواذيبو الحرة، وذلك من قبل أن يتم ترشيحه في انتخابات 23 نوفمبر من طرف الحزب الحاكم ليصبح من بعد ذلك نائبا ورئيسا للجنة المالية بالجمعية الوطنية.
(6)
في يوم الخميس الموافق 15 أكتوبر2009تم تجريد مدير العمران السيد جكانا إساقا من وظائفه، وهذا الموظف الذي جرد من وظائفه ذات مجلس وزراء تمت ترقيته ذات مجلس آخر، ليصبح أمينا عاما في نفس الوزارة لفترة الزمن.
(7)
في يوم الخميس 31 يوليو 2014 تم إنهاء مهام مدير المدرسة العليا للتعليم السيد عالي ولد اعلاده، وقد جاء التجريد بعد إصدار المفتشية لتقرير تحدث عن اختفاء 30 مليون أوقية من ميزانية المدرسة العليا للتعليم، وفي يوم الخميس 02 إبريل من العام 2015 تم تعيين السيد عالي ولد اعلاده مديرا عاما للمدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء.
(8)
في يوم الخميس 5 نوفمبر 2009 تم تجريد مدير الزراعة السيد محمد ولد النمين من مهامه بسبب تقرير للمفتشية، وفي 14 مايو 2015 تم تعيين هذا الموظف المجرد من مهامه في منصب المستشار الفني المكلف باللجنة الدائمة لدول الساحل لمحاربة التصحر.
(9)
في يوم الخميس 5 نوفمبر 2009 تم تجريد المدير العام للإذاعة السيد حمه ولد اسويلم من مهامه، وفي يوم الخميس 30 دجمبر 2010 كان الإجراء الخصوصي الوحيد الذي تم اتخاذه في ذلك المجلس هو إنهاء مهام الأمين العام للوزارة المكلفة بالتشغيل والتكوين المهني السيد محمدن ولد سيدي الملقب بدن. وبعد ذلك التجريد وهذا الإنهاء فقد تم تعيين حم ولد أسوليم ناطقا رسميا باسم اللجنة المستقلة للانتخابات في نسختها السابقة، في حين تم تعيين محمدن ولد سيدي (بدن) مديرا للانتخابات واللوازم بنفس النسخة من اللجنة.
(10)
في يوم 14 فبراير من العام 2013 تم تعيين السيد محمد ديدي رئيسا لمجلس إدارة ميناء الصداقة، وتم تعيينه من بعد ذلك رئيسا لسلطة تنظيم النقل الطرقي، وقد تزامن ذلك التعيين مع تعيين محفوظ ولد السملالي مفتشا عاما للدولة، والذي كان قد تم تعيينه في يوم 19 فبراير 2013.ومن اللافت أن الموظفين اللذين تزامن تعيينهما يشتركان أيضا في كونهما قد تم تجريدهما أو إقالتهما في عهد ولد الطايع بتهم تتعلق بالفساد. فأحدهما كان قد تم تجريده بسبب التلاعب بالقطع الأرضية، والثاني بسبب تزوير ونفخ الأرقام والمؤشرات الاقتصادية.
(11)
فيما يخص التوشيحات فإليكم هذا المفارقة الغريبة : لما كان رجل الأعمال محمد ولد أنويكظ معارضا في العام 2009 تم تصنيفه على أنه رمز من رموز الفساد وأنه من ناهبي المال العام، وقد تم اعتقاله في شهر ديسمبر من العام 2009 بتهم تتعلق بنهب المليارات من خزائن الدولة فيما عُرف حينها بملف البنك المركزي.
هذا الرجل الذي كان في العام 2009 من كبار رموز الفساد هو نفسه الرجل الذي سيصبح من خيرة رجال الأعمال الوطنيين لما أصبح مواليا، ولذلك فقد تم توشيحه بوسام فارس في نظام الاستحقاق الوطني، وكان ذلك في يوم 28 نوفمبر من العام 2015.
في الفترة التي كان فيها رجل الأعمال محمد ولد انويكظ من كبار المفسدين تم توشيح رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو ـ وهو الداعم حينها للرئيس ـ بوسام الشرف الوطني (رتبة كوماندور في نظام الاستحقاق الوطني)، وكان ذلك تحديدا في يوم 28 نوفمبر 2009.
هذا الكوماندور في نظام الاستحقاق الوطني تحول لما عارض النظام إلى مفسد ومتهرب من الضرائب وإلى خائن للوطن.
فهل يعقل في دولة تحكمها الشريعة أو القانون أو المنطق أو الأخلاق أن يسجن رجل أعمال في ملف فساد في العام 2009 ويوشح بأعلى وسام في العام 2015، وأن يوشح رجل أعمال آخر بأعلى وسام في العام 2009 ليتحول من بعد ذلك إلى مفسد ومطارد فتصادر أمواله، وتغلق مؤسساته الخيرية؟
وهل يعقل من قبل ذلك ومن بعده أن يتواصل تعيين وترقية المجردين من مهامهم من طرف نفس النظام الذي كان قد سجنهم في وقت سابق بسبب تهم تتعلق بالفساد؟
حفظ الله موريتانيا..