في أول زيارة لإسرائيل حذّرها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من أن عمليات إجلاء الفلسطينيين في القدس الشرقية قد تؤدي إلى مزيد من الصراع والحرب. فهل هناك تغيير جوهري حقيقي في الموقف الأمريكي من الاحتلال والصراع وما مدى استعدادها للمساهمة في تسويته؟ تأتي هذه التساؤلات اليوم في ظل تصريحات ومواقف أمريكية تعتمد لغة مغايرة عما كانت في فترة الرئيس ترامب وتزامنا مع تغييرات عميقة في الشارع الأمريكي تشمل حتى اليهود الأمريكيين ممن يرفعون صوت الانتقادات للاحتلال. ويبقى السؤال الأهم مدى احتمال جدية وجاهزية واشنطن في السعي الفعال لإنهاء الصراع؟ في تحذيره أكد بلينكن خلال جولته في الشرق الأوسط للقادة الإسرائيليين من أن عملية إجلاء العائلات الفلسطينية من القدس الشرقية أو إثارة المزيد من الاضطرابات في الحرم القدسي سيؤدي إلى مزيد من التوتر والصراع والحرب. وقال في مقابلة أجراها مع موقع «أكسيوس» الأمريكي، أثناء عودته من الشرق الأوسط إلى واشنطن عبر الهاتف، إن الأهم في جولته كان أنه سمع بشكل مباشر من الإسرائيليين وبشكل غير مباشر عبر الوسطاء المصريين، من حركة حماس أنهما ترغبان في الحفاظ على وقف إطلاق النار. وأضاف: «لكن من المهم أيضا أن نتجنب مختلف الأعمال التي من شأنها أن تؤدي بشكل متعمد أو غير متعمد، إلى اندلاع جولة أخرى من العنف». وتابع «تناولنا النقاط المثيرة للقلق لدى جميع الأطراف، التي من شأنها قبل كل شيء أن تؤدي إلى التوترات والنزاع والحرب وأن تقوض في نهاية المطاف بشكل أكبر الآفاق المعقدة لحل الدولتين». وأوضح وزير الخارجية الأمريكي أنه خلال اللقاء مع المسؤولين الإسرائيليين تم ذكر «عمليات إجلاء الفلسطينيين من منازلهم التي سكنوا فيها خلال العقود من السنين والأجيال وهدم المنازل أيضا وكل الأمور التي حدثت حول الحرم القدسي». وفيما يتعلق بالقادة الفلسطينيين، قال إنه ناقش معهم «التحريض على العنف أو السماح بأعمال عنف بدون عقاب» إضافة إلى التعويض لعائلات الفلسطينيين الذين اتهمتهم إسرائيل بالإرهاب. ولم يوضح بلينكن ما كانت ردود الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني في تلك المناقشات التي أجراها معهما، معتبرًا أن «أفضل وسيلة لمنع دوامة العنف هي توفير مزيد من الفرص للناس في غزة».
تطورات الحرب الأخيرة
وجاءت تطورات الحرب على غزة الأخيرة، لتعيد طرح أسئلة متصلة بالملف إياه وبموقف الإدارة الأمريكية من الصراع العربي ـ الفلسطيني- الإسرائيلي. ويرى إلداد شافيط، الباحث الإسرائيلي في «معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي» التابع لجامعة تل أبيب أن عملية «حارس الأسوار» فاجأت الإدارة الأمريكية وأن تعيين سفير في إسرائيل وقنصل عام في القدس (دليل ثقة بالعلاقات مع السلطة الفلسطينية) قد تأجل بعد دخول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، ولم تكن إدارته تنوي وضع قضية النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني في رأس سلّم أولوياتها، مع أنها عملت على ترميم العلاقات مع الفلسطينيين وفتح الباب مستقبلاً أمام إمكان الدفع قدماً بحل الدولتين. منوها إلى أن المواجهة العنيفة التي نشبت بين إسرائيل وحماس فرضت على الإدارة الأمريكية بسرعة بلورة سياسة وتوظيف الكثير من الوقت للحث على التهدئة، خلال العملية وفوراً من بعدها: دعم الرئيس بايدن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها وامتنع بقدر الممكن من انتقاد خطواتها علناً. في المقابل، بذل جهداً دبلوماسياً كبيراً حيال إسرائيل والدول العربية، خاصة مصر، للدفع قدماً بمخطط لوقف إطلاق النار. ويرجح شافيط أن الضغوط على إسرائيل ازدادت فقط عندما بات واضحاً للإدارة الأمريكية أن المعركة العسكرية قد استُنفدت بالكامل. ويقول إنه بعكس أحداث مشابهة في الماضي، لعب الكونغرس دور «الشرطي الشرير» واستخدم الضغوط على الإدارة للتشدد في سياستها إزاء إسرائيل، وفي الأساس الضغوط من الأجزاء التقدمية في الحزب الديمقراطي كانت كبيرة. كما يرجح أن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وصل إلى المنطقة للعمل على ترسيخ التهدئة، وعلى ما يبدو من أجل تشجيع الجهود لبلورة مخطط إعادة إعمار قطاع غزة. في المقابل يتنيه شافيط هو الآخر إلى أن إدارة بايدن كررت القول إن شيئاً لم يتغير في الالتزامات الأمنية إزاء إسرائيل، لكنهم شددوا على أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لإنهاء النزاع، وأن للإسرائيليين والفلسطينيين الحق في الحصول على فرص متساوية في العيش الآمن والكريم.
مصالح إسرائيل
وفي رأي هذا الباحث الإسرائيلي فإنه بعد عملية حارس الأسوار سيكون على إسرائيل بلورة سياستها، وأن تأخذ في حسابها المسائل التالية: على ما يبدو وبعكس التقديرات السابقة، يوجد في البيت الأبيض اليوم رئيس صديق حقيقي لإسرائيل يعتمد نهجاً يستند إلى أعوام من التجربة السياسية والمعرفة العميقة بحاجة الولايات المتحدة إلى تأمين مصالح إسرائيل الأساسية في كل ما يتعلق بحاجاتها الأمنية. مع ذلك، هذا الفهم لا يعني أن الرئيس وإدارته سيوافقان تلقائياً على كل خطوة تقوم بها حكومة إسرائيل. ومثل الإدارات السابقة فإن كل الخطوات التي ستقوم بها إسرائيل ستُدرَس في ضوء المصالح الأمريكية والتفسيرات التي ستقدَّم للمصالح الإسرائيلية. ويقول إنه في هذا السياق، يتعين على إسرائيل عند اتخاذ القرارات أن تدرس مسبقاً النهج المتوقع للإدارة الأمريكية. منبها أن المواقف الانتقادية لإسرائيل في الجناح التقدمي من الحزب الديمقراطي بدأت تتغلغل أيضاً إلى المشرّعين الذين ينتمون إلى التيار الوسطي. ويقول إنه في هذا السياق، تبرز الانتقادات غير المسبوقة التي أدلى بها السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز، الذي يُعتبر من أبرز مؤيدي إسرائيل أيضاً إذا تمسكت الإدارة الأمريكية بسلّم أولوياتها فقد أثبتت التطورات الأخيرة لها أن الشرق الأوسط يجذبنا إليه حتى لو لم نكن مهتمين به. وعن ذلك يضيف شافيط «يبدو أنه على الأقل في المرحلة المقبلة ستكون الإدارة الأمريكية منخرطة في محاولات بلورة مخطط عمل يسمح بتثبيت الوضع في قطاع غزة بهدف منع تجدد أعمال العنف. لقد شدد وزير الخارجية بلينكن قبل زيارته إلى المنطقة على أن الهدف الآن هو «بناء وسائل ملموسة تسمح بأمل جديد حقيقي وتقدّم فرصاً للناس».
إعمار غزة
وبحسب كلام بلينكن في المرحلة الأولى ستكون هناك حاجة إلى مواجهة الوضع الإنساني الخطر في غزة من خلال إقناع الدول بدعم إعادة إعمار المنطقة وتطويرها. في المقابل، ستستأنف الإدارة الأمريكية علاقاتها مع الفلسطينيين وستواصل الحوار الدائم مع إسرائيل وفق تقديرات شافيط الذي يقول إنه مع ذلك من المتوقع أن تواجه هذه الإدارة صعوبات، سواء بسبب التشريعات التي تقيّد قدرتها على مساعدة الفلسطينيين، أو على ما يبدو بسبب رفض الفلسطينيين بدء حوار معها قبل إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس. ويرى شافيط أنه من السابق لأوانه القول ما إذا كانت المواجهة بين إسرائيل وحماس ستدفع الإدارة الأمريكية، بخلاف رغبتها السابقة، إلى المزيد من التدخل في القضية الفلسطينية. ويوضح أنه في هذه المرحلة تشدد الإدارة الأمريكية على أن من المّبكر التطرق إلى مبادرات سياسية لحل النزاع وأنه مع ذلك، يكرر الرئيس بايدن والناطقون بلسانه أنه فقط لدى حلّ الدولتين فرصة في النجاح في تهدئة النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. ضمن استنتاجات شافيط، يفرض سلوك المشرّعين الديمقراطيين على إسرائيل ـ بعد تركيزها في فترة الرئيس ترامب وفترة الرئيس أوباما على العلاقة بالحزب الجمهوري- بذل جهود أكبر لعودتها إلى مكانتها السابقة كمركز إجماع في الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة. ويضيف محذرا «لا تزال أغلبية المشرّعين الديمقراطيين في الكونغرس تتمسك بموقفها الداعم لإسرائيل. لكن المواقف الانتقادية لإسرائيل في الجناح التقدمي من الحزب الديمقراطي بدأت تتغلغل أيضاً إلى المشرّعين الذين ينتمون إلى التيار الوسطي. في هذا السياق، تبرز الانتقادات غير المسبوقة التي أدلى بها السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز، الذي يُعتبر من أبرز مؤيدي إسرائيل، في أعقاب تدمير مبنى الجلاء في غزة، الذي ضم أيضاً إلى جانب مكاتب الجزيرة مكاتب وكالة الأنباء الأمريكية الأسوشيتد برس، إذ قال: أنا قلِق جداً من تقارير عمليات عسكرية إسرائيلية في غزة أدت إلى مقتل مواطنين أبرياء وتدمير مقصود لمكاتب وسائل إعلام دولية.
برني ساندرز
وفي معرض تحذيراته يقول إن هناك مشرّعين ديمقراطيين، وعلى رأسهم السيناتور اليهودي برني ساندرز، يطلبون من الرئيس الذي يعارض بشدة اشتراط المساعدة العسكرية لإسرائيل بالدفع قدماً بحل النزاع. يُضاف إلى ذلك قيام عدد من المشرّعين الديمقراطيين خلال الحرب على غزة بمحاولة فاشلة لوقف صفقة السلاح التي وافقت عليها الإدارة الأمريكية مع إسرائيل ويتابع «يجب ألّا يغيب عن البال أن المزيد من المشرّعين الديمقراطيين يستوعبون الحديث المتزايد وسط جمهور الناخبين الديمقراطيين، والذي يربط بين النضال من أجل حقوق الإنسان في الولايات المتحدة ونضال الفلسطينيين من أجل الحصول على حقوقهم». مشيرا إلى أن سلوك الرئيس بايدن خلال الحرب دلّ فعلاً على أنه قادر على الوقوف في وجه هذا الضغط داعيا للأخذ في الحسبان أنه ليس في إمكان الرئيس وإدارته تجاهُل التيارات التي تزداد قوة داخل الحزب الديمقراطي ووسط جمهور مؤيديه في شتى أنحاء الولايات المتحدة. ويستذكر أن استطلاعا للرأي أجراه معهد غالوب في شباط/ فبراير 2021 أظهر ارتفاعاً في تأييد الفلسطينيين على الرغم من أن أغلبية الجمهور الأمريكي تقف موقفاً إيجابياً من إسرائيل. كما عكس الاستطلاع أن الأغلبية في وسط الديمقراطيين ترغب في ضغط أكبر من جانب الولايات المتحدة على إسرائيل.
ضغوط متزايدة
كما أظهر بحث أجرته جامعة ميريلاند ونشرته صحيفة «واشنطن بوست» وجود أغلبية وسط الناخبين الديمقراطيين تطالب باتخاذ خطوات عقابية ضد إسرائيل بسبب المستوطنات. وبحسب البحث الأمريكي، فإن عدداً كبيراً من الأمريكيين مستعد اليوم للتخلي عن حل الدولتين ويفضل إسرائيل دولة ديمقراطية غير يهودية على دولة يهودية لا تمنح الفلسطينيين حقوق المواطنة.
وبهذا السياق يتفق مع شافيط مدير عام الخارجية الإسرائيلية سابقا ألون ليئيل ويستذكر قول الرئيس بايدن فور بدء عملية حارس الأسوار، إن الحزب الديمقراطي مستمر في تأييده لإسرائيل، لكنه اضطر في أثناء الحرب إلى توظيف جهود في مواجهة حزبه. ويوضح ليئيل أيضا أن التوتر بين التوجه الأساسي للرئيس المؤيد لإسرائيل والتناقض الذي ينطوي عليه هذا الموقف مع الأهمية التي يوليها الرئيس وإدارته لحقوق الإنسان، أجبره على المناورة خلال الحرب، في الأساس عندما عرض موقفه أمام خصومه في الساحة الدولية، وبصورة خاصة في مواجهة الصين عندما اتهمه وزير الخارجية الصيني بالنفاق، على خلفية الانتقادات الأمريكية لسياسة الصين في سنغافورة، بينما تسكت الإدارة الأمريكية على الانتهاكات الإسرائيلية في غزة. ويتوقع ليئيل أن يواصل بايدن، في ضوء صداقته والتزامه العميق بإسرائيل، صد المطالب غير العادية لأعضاء حزبه، لكن كونه بحاجة إليهم للدفع قدماً بجدول أعمال إدارته يمكن أن يجعله يواجه تحديات معقدة. ويضيف «علاوة على أن سلوك الإدارة الأمريكية خلال عملية حارس الأسوار أظهر الموقف الإيجابي للرئيس بايدن إزاء إسرائيل، فإنه أيضاً جسّد كما في الماضي الدور المركزي للولايات المتحدة في إدارة الأزمات التي تؤثر في المصالح الأمنية لإسرائيل. على هذه الخلفية، وكدرس مباشر، يتعين على حكومة إسرائيل أن تفهم، وأن تأخذ في اعتبارها مصالح الولايات المتحدة وحاجات الإدارة الأمريكية». ويقول إنه من أجل تقليص المفاجآت ومنع الفجوات بين مواقف الدولتين، يتعين على إسرائيل إجراء حوار استراتيجي متواصل وبنّاء، يمكن في إطاره التأثير في الإدارة خاصة أن تفهم المصالح الأمريكية بطريقة أفضل. في هذا السياق، يوصي إسرائيل بتبني نهج يؤدي إلى التقرب من الولايات المتحدة بقدر الممكن، وبعدم الدخول في مواجهة علنية معها، انطلاقاً من التقدير أن مطالبها تتطابق مع المصالح الإسرائيلية. وبذلك تستطيع إسرائيل برأيه مساعدة الإدارة الأمريكية على مواجهة التيارات المعادية لإسرائيل وسط الجمهور الأمريكي، الذي من الصعب على إسرائيل التعامل معه مباشرة