هل تستطيع يد الإصلاح قطع يد الفساد ؟/المحامي / محمد سدينا ولد الشيخ

جمعة, 04/11/2022 - 13:03

عطلت حدود الشريعة الإسلامية في موريتانيا و أعفيت يد السارق ولم تعد تظهر على المفسدين علامات تميزهم عن بقية الناس ،ما مكن بعضهم من التخفي والعود مرة تلو المرة مطورا مهارته كسارق وزعيم .

عم الفساد البر والبحر وصار كل شيء يوظف لصالحه ،حتى حقوق الإنسان سخرت لحماية المفسد من القطع ،ما مكنه من انتهاك حقوق شعب بأكمله .

التنوير هو الآخر سخر لخدمة الفساد ،لأن بعضا من شيعته كانت لهم مطالب تتعلق بتعطيل حدود الشريعة التي وجدها ظلاما لما نظر  إليها من منظار وساوس المستشرقين والمستغربين التي لا تتبع منهج فكر منسجم يمكن الركون إليه .

وساوس المستشرقين والمستغربين ليس لها زمان حيث نجد أبا العلاء المعري كان ضحية لوساوس مماثلة ، وربما اندس اليوم من سعى إلى زرع الوساوس والشكوك وقتل الطموح في مستواه الأول ،أي قتله على مستوى الأمل .

المفسدون سخروا بأنات شعب ضعيف عملوا على  زعزعة ثقته في كل شيء وتركوه حائرا شاكا في كل شيء حتى في معاييره المتوارثة المتعلقة بالثقة في الناس،وذلك سبيلا لمحو ذاكرته ولتوفير أرضية مناسبة لمختلف أنواع النسيان ،هذا النسيان الذي له صلة بانعدام الأرشفة وضعف التوثيق وبنشر التزوير والكذب ،إلى أن صارت تلك المعوقات روافدا يمنع حصول ثقة بل يمنع عقد عزم ينطلق منه أمل . 

من دون توفر الثقة واليقين والأمل لن يقدم الإنسان على إنجاز أي عمل ،ومن دون قواعد متأصلة  يرضخ لها الجميع لن تتوفر أرضية للانطلاق نحو التنمية، فالقواعد المذكورة هي الشريعة .وبه استفادت نظم الفساد من دعوات دعاة التنوير وحقوق الإنسان المناهضة لتطبيق حدود الشريعة ،رغم كون الشريعة هي الآلية الفعالة الوحيدة القادرة على مواجهة الفساد .

مواجهة الفساد وجنده قام بها بعض الفقهاء عبر التاريخ ،ولازال بعضهم يحمل أمانة حراسة نظم المتجمعات ولا تأخذهم في الحق لومة لائم ولا يربطون مستواهم العلمي بمستواهم المعيشي كالقاضي عبد الوهاب ابن نصر البغدادي إمام مالكية العراق ،الذي ظل يحمي الشريعة وحدودها ،رغم الظروف الصعبة التي عاشها في بغداد أيام ازدهارها ، والتي قال عنها  :   

بغداد دار لأهل المال طيبة ،، وللمفاليس دار الضنك والضيقي

                ظللت حيران أمشي في أزقتها ،،كأنني مصحف في بيت زنديقي

تلك الظروف لم تكن لتفت في عضد القاضي عبد الوهاب ولا في عزمه ولا مواقفه ،فانبرى لأبي العلاء المعري لما شكك في عدالة حد قطع يد السارق وذلك على النحو التالي :

 قال أبا العلاء :

يد بخمس مئين عسجدا فديت ،،ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض مالنا إلا السكوت له ،،ونستعيذ ببارينا من الناري

فرد عليه القاضي عبد الوهاب قائلا :

عز الأمانة أغلاها وأبخسها ،، ذل الخيانة فافهم حكمة البار

وهي مناظرة صيرت أبا العلاء أبا للنزول إلى أن قال عن نفسه :

دعيت أبى العلاء وذاك فني .. ولكن الصحيح أبا النزول

وإذا أردتم بالدليل العقلي معرفة حكمة الله في قطع يد السارق فعليكم في المرحلة أولى تذكر أننا قلنا أنه من دون يقين لن يتحقق عمل ،ما يعني أن  تصرفات الإنسان إنما هي ترجمة لما يقتنع به ،وعليكم في مرحلة ثانية أن تتخيلوا الصورة التي نقدم لكم كمثال ،ثم تابعوا معنا الملاحظات المستخلصة :

 لو افترضنا وجود رجل مكتمل الجسم غير معاق يتمتع بلياقة بدنية عالية سريع الحركة ويعرف مهارات ومهن ويعرف بعض العلوم واللغات ،لكن وقع ما لم يكن في الحسبان حين أصيب بشلل في لسانه ويديه وقدميه وبقي عقله سليما حاضنا لتلك المواهب دون أن تكون له قدرة على التعبير عنها أو قدرة على تجسيدها في الواقع ، لا يمتلك وسيلة إلا باستخدام الأعضاء المفقودة !!

فهل يستطيع هذا الإنسان تجسيد شيء من مواهبه تلك في الواقع بمجرد أنه يمتلك فكرا مجردا لا يستطيع التعبير عنه بكتابة أو كلام أو إشارة ؟ الجواب طبعا ب لا .

وإذا سلمنا بعد هذا أن العقل مشتمل على نمط تفكير بناء يمكن لصاحبه استحضاره عند إرادته القيام بتصرفات بناءة ومفيدة له وللمجتمع ، وعنده أيضا نمط تفكير هدام يمكنه استحضاره عند إرادته القيام بتصرفات شاذة تضره وتضر المجتمع .

وعندها تكون اليد كأي عضو آخر تقبل استقبال أوامر تعطيها توظيفا إيجابيا نافعا للناس ،كما يمكنها أن تستقبل أوامر توظفها في نشاط سلبي ضار بالناس .

وانطلاقا من ذلك يكون الفرد الذي يدعم استمرار الاجتماع البشري يوجه عمله نحو نمط كسب مادي يفيد الناس في حياتهم ويحترم لهم حقوقهم في الملكية وغيرها،بينما اللصوص لا تتجه إرادتها إلى ذلك ،بل تتجه إلى قطف ثمرات جهود الآخرين وسحب الاعتراف بحقوقهم في التملك ،وهو أسلوبهم الوحيد للكسب المادي رغم ما ينطوي عليه من ظلم واستداد وتشبث بشريعة الحيوان لا بمثل بني الانسان .

اللصوص يبذلون جهودا ومهارات لو بذلوها في تحقيق كسب مشروع لحققوا أضعاف أضعاف ما حققه ضحاياهم،لكن سيطرت عليهم أفكار خبيثة دمروا بها ثمرات جهود الآخرين وعطلوا بها جهودهم الذاتية عن الإطلاع بدور في التنمية ،ما يحتم قطع أيديهم كي لا تقضي على حقوق الآخرين وتتسبب في تقطيع عرى المجتمع .

بهذا يكون اللص متوحش معاد للاجتماع البشري ،وأكثر أنواعه خطورة هو لص المال العام الذي سحب اعترافه بحق الملكية لأفراد شعب بأكمله متخذا وظيفته وسيلة للاستعباد -وفرض (لاغرامة) و(اتهنتيت) -لما ظن أنه يملك الحق وصاحبه ،ما يمكنه من التصرف فيهما تصريف المالك في ملكه دون التقيد بأي قيود .

ومن هنا يظهر الصراع الحتمي بين يد الفساد ويد الإصلاح ،وهو صراع وجود يحتم أن تقطع إحداهكا الأخرى ..فهل تستطيع يد الإصلاح قطع يد الفساد ؟ .

المحامي / محمد سدينا ولد الشيخ