بعد أيام من هجوم مباغت أطلقت فيه حركة "حماس" التي تسيطر على السلطة في قطاع غزة وابلاً من الصواريخ وعبور عدد من مسلحيها السياج الحدودي الإسرائيلي، بدأت إسرائيل في توجيه تحذيرات لإجلاء أكثر من مليون فلسطيني يقطنون شمال غزة استعداداً لهجوم غير مسبوق ضد "حماس"، حيث توعد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بمحوها. وقالت وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية جيلا غامليئيل، إن الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة تهدف إلى "اقتلاع" الحركة.
وبينما تواصل إسرائيل التهديد بغزو بري يهدف إلى تغيير الوضع الراهن بشكل دائم، حيث حشدت بالفعل 360 ألف جندي احتياطي في الأيام الماضية، وأسقطت ستة آلاف قنبلة ضد أهداف تابعة لـ"حماس" حتى الآن، وفق سلاح الجو الإسرائيلي، اتهم مسؤولون في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إسرائيل بانتهاك تعهدها بعدم إيذاء المدنيين من خلال قطع المياه والكهرباء عن جميع سكان غزة، بما في ذلك المستشفيات، ويقولون إن من المستحيل ضمان سلامة هذا العدد الكبير من المدنيين من خلال منح 24 ساعة فقط للإخلاء لتجنب القتال. وعلى رغم مساندته لإسرائيل وتأكيده على "حقها في الدفاع عن نفسها" فإن الرئيس الأميركي جو بايدن طالب الإسرائيليين بضرورة اتباع "قواعد الحرب"، فما هي تلك القواعد أو القانون الدولي الإنساني مثلما تعرف رسمياً؟
ما لا يمكن فعله
وفق اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن القانون الدولي الإنساني هو مجموعة القواعد الدولية التي تحدد ما يمكن وما لا يمكن فعله خلال نزاع مسلح وتهدف بشكل رئيس للحفاظ على شيء من الإنسانية في النزاعات المسلحة وإنقاذ الأرواح والتخفيف من المعاناة. وتعتبر اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، التي حظيت بانضمام وتصديق عالمي، المعاهدات الجوهرية للقانون الدولي الإنساني.
وتوجد معاهدات دولية أخرى تحظر استخدام وسائل وأساليب معينة للحرب وتحمي فئات معينة من آثار الأعمال العدائية، وهي بروتوكول عام 1925 الخاص بحظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة أو السامة أو ما شابهها، واتفاقية عام 1954 لحماية الممتلكات الثقافية في حال اندلاع نزاع مسلح وبروتوكولاها لعامي 1954 و1999، واتفاقية عام 1972 لحظر استحداث وإنتاج وتخزين الأسلحة البكتريولوجية (البيولوجية) والتكسينية وتدمير تلك الأسلحة، واتفاقية عام 1976 لحظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى، واتفاقية عام 1980 في شأن حظر أو تقييد استعمال أسلحة تقليدية معينة يمكن اعتبارها مفرطة الضرر أو عشوائية الأثر وبروتوكولاتها الخمسة.
هناك أيضاً اتفاقية عام 1993 في شأن حظر استحداث وإنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيماوية وتدمير تلك الأسلحة، واتفاقية عام 1997 في شأن حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير تلك الألغام، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل لعام 2000 في شأن اشتراك الأطفال في النزاعات المسلحة، والاتفاقية الدولية لعام 2006 في شأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، واتفاقية عام 2008 في شأن الذخائر العنقودية.
ثمة خلاف بين المجموعات الدولية حول ما يمكن اعتباره انتهاكاً في سعي دولة ما للدفاع عن نفسها ضد الهجمات الإرهابية، وكذلك ما إذا كان من الممكن محاكمة إسرائيل من خلال المحكمة الجنائية الدولية، وهي كيان لا تعترف به إسرائيل التي وقعت على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، لكنها لم تصادق عليها. فالأجواء الدولية التي اتخذ أغلبها مواقف مؤيدة لإسرائيل عقب هجمات "حماس" تبعث بالشك في الالتفات إلى ذلك القانون الدولي الإنساني.
الوحشية والقانون
تقدر السلطات الصحية الفلسطينية أن 1799 مدنياً قتلوا في الغارات الجوية الإسرائيلية، من بينهم 583 طفلاً، في أعقاب هجمات "حماس" التي أودت بحياة ما لا يقل عن 1300 إسرائيلي، بحسب السلطات الإسرائيلية.
وتقول رافينا شامداساني، المتحدثة باسم مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن وحشية "حماس" لا تحرر إسرائيل من الالتزام بالقوانين الإنسانية الدولية، وأضافت "من المهم للغاية أن يوضح القادة الإسرائيليون وزعماء العالم بشكل لا لبس فيه أن القانون الإنساني الدولي التزام وليس اختياراً، وأن العمليات العسكرية يجب أن تتم مع الالتزام الكامل بهذا القانون".
في المقام الأول من بين قواعد القانون الإنساني الدولي، هناك القاعدة التي تقضي بأن على أطراف النزاع أن تميز في جميع الأوقات بين المقاتلين والمدنيين، فلا يجوز أبداً استهداف المدنيين بالهجوم، ويكون لزاماً على جميع الأطراف المتحاربة اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتقليل الضرر الواقع على المدنيين والأعيان المدنية مثل المنازل والمتاجر والمدارس والمرافق الطبية والمؤسسات الدينية إلى الحد الأدنى. وتنص المادة المشتركة "3" من "اتفاقيات جينيف لسنة 1949" على عدد من تدابير الحماية الأساسية للمدنيين والأشخاص الذين لم يعودوا يشاركون في الأعمال العدائية، مثل المقاتلين الأسرى وأولئك الذين استسلموا أو أصبحوا عاجزين، وتحظر المادة أيضاً العنف ضد هؤلاء الأشخاص، وتحديداً القتل والمعاملة القاسية والتعذيب، إضافة إلى التعدي على كرامتهم الشخصية والمعاملة المهينة واللاإنسانية وأخذ الرهائن.
مع ذلك، فإن تجنب إلحاق الأذى بالمدنيين يمكن أن يقع في منطقة رمادية في ذلك الصراع الذي يشتد حدة، بخاصة عندما يتعلق الأمر بعملية برية ضخمة محتملة من قبل إسرائيل على ذلك الشريط الضيق للغاية من الأرض. وتعد غزة من بين أكثر المناطق المأهولة بالسكان على وجه الأرض، حيث تبلغ مساحتها أكثر قليلاً من 360 كيلو متراً مربعاً ويبلغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة.
وقال إريك أولريش، الجندي المتقاعد لدى القوات البحرية الأميركية في تعليقات لقناة "أيه بي سي نيوز" الأميركية، إنه حتى مع وجود أسلحة متطورة سيكون تنفيذ مثل هذه العملية صعباً للغاية من دون إصابة المدنيين، مضيفاً أنه "لا توجد قوة في العالم يمكنها التعامل مع 40 ألف جندي (معادٍ) يتوزعون بين المدنيين في تلك المنطقة ذات الكثافة السكانية العالية" من دون أن تحدث وفيات بين المدنيين.
القوة والاستثناء
على رغم عدم توازن القوة العسكرية بين إسرائيل و"حماس"، فإن قوانين الحرب، وفق منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية، لا تميز رسمياً بين أطراف النزاع على أساس اختلال موازين القوى أو معايير أخرى، إذ لا يمكن أبداً تبرير انتهاك هذه القوانين عبر استهداف المدنيين عمداً أو تنفيذ هجمات عشوائية بالإشارة إلى الظلم جراء الوضع السياسي أو غيره من الحجج السياسية أو الأخلاقية، فالسماح باستهداف المدنيين في الظروف التي يوجد فيها تفاوت في القوة بين القوات المتحاربة، كما هي الحال في عديد من النزاعات، من شأنه أن يخلق استثناءً يمكنه أن يلغي فعلياً قوانين الحرب.
كأطراف في النزاع المسلح، فإن الأذرع المسلحة لـ"حماس" و"الجهاد الإسلامي" وغيرهما من الجماعات الفلسطينية المسلحة ملزمة التقيد بالقانون الإنساني الدولي، وفق "رايتس ووتش". وتحظر قوانين الحرب على الجماعات الفلسطينية المسلحة استهداف المدنيين أو شن هجمات عشوائية أو هجمات من شأنها إحداث أضرار غير متناسبة بالمدنيين مقارنة بالميزة العسكرية المتوقعة، كما أن قادة الجماعات الفلسطينية المسلحة ملزمون أيضاً اختيار وسائل الهجوم التي يمكنهم توجيهها نحو أهداف عسكرية، وتقليل الضرر العرضي الواقع على المدنيين. وإذا كانت الأسلحة المستخدمة عديمة الدقة بحيث لا يمكن توجيهها نحو أهداف عسكرية من دون تشكيل أخطار كبيرة على المدنيين، فعلى الجماعة المسلحة الامتناع عن استخدامها.
ووجدت "رايتس ووتش" في الأعمال القتالية السابقة أن الصواريخ التي أطلقتها الجماعات الفلسطينية المسلحة، ومنها الصواريخ محلية الصنع قصيرة المدى والصواريخ المحدثة طويلة المدى وصواريخ "غراد" والصواريخ المستوردة من مصادر أخرى، عديمة الدقة إلى درجة أنه من غير الممكن توجيهها على نحو يميز بين الأهداف العسكرية والمنشآت المدنية عند إطلاقها على مناطق مأهولة، ويتفاقم انعدام الدقة واستحالة التوجيه نحو أهداف عسكرية في حال الصواريخ الأطول مدى التي أطلق بعضها إلى داخل إسرائيل، كما أن الطرف الذي يطلق صواريخ من مناطق مكتظة بالسكان أو يضع أهدافاً عسكرية في مناطق مدنية أو بالقرب منها (معرضاً بذلك المدنيين لخطر الهجمات المضادة) لا يتخذ ربما جميع الاحتياطات المعقولة لحماية المدنيين الخاضعين لسيطرته من آثار الهجمات.
التهجير القسري
منذ أن اشتعلت الحرب، دعت إسرائيل سكان قطاع غزة إلى إخلاء منازلهم ودفعهم للنزوح إلى مصر، وهو ما أثار تحذيرات مصرية من تفريغ القطاع من سكانه وتصفية القضية الفلسطينية. وفي هذا الصدد، تشترط قوانين الحرب قيام الأطراف المتحاربة بتقديم "تحذيرات مسبقة فعالة" من الهجمات التي قد تمس السكان المدنيين، لكن يبقى المدنيون الذين لا يخلون المكان عقب التحذير متمتعين بكامل حماية القانون الإنساني الدولي، و"إلا لجاز للأطراف المتحاربة استخدام التحذيرات لإحداث عمليات نزوح قسري وتهديد المدنيين بالأذى المتعمد إذا لم يستجيبوا لهذه التحذيرات". ويقول مراقبون إنه يمكن اعتبار الحصار جريمة حرب إذا كان يستهدف المدنيين، وليس وسيلة مشروعة لتقويض قدرات "حماس" العسكرية.
منح نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية السلطة القانونية للتحقيق في الجرائم المزعومة على أراضي الدول الأعضاء أو التي يرتكبها مواطنون عندما تكون السلطات المحلية "غير راغبة أو غير قادرة" على القيام بذلك. وأكد مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الأسبوع الماضي، أن تفويضه ينطبق على الجرائم المحتملة المرتكبة في الصراع الحالي، وقال إنه يواصل جمع المعلومات.
وفيما دخلت "معاهدة المحكمة الجنائية الدولية" حيز التنفيذ رسمياً في فلسطين في مطلع أبريل (نيسان) 2015، أوضح قضاة المحكمة أن هذا يمنح المحكمة ولاية قضائية على الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وهي غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. ولدى المحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في هذه المنطقة، بغض النظر عن جنسية الجناة المزعومين. وفي الثالث من مارس (آذار) 2021، فتحت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية آنذاك تحقيقاً في جرائم خطرة مزعومة ارتكبت في فلسطين منذ 13 يونيو (حزيران) 2014. وخصصت ميزانية المحكمة الجنائية الدولية أكثر من مليون دولار للتحقيقات في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية لعام 2023، وتسعى إلى الحصول على موارد إضافية.
وفق وكالة "رويترز"، أشار نيك كوفمان، محامي الدفاع الإسرائيلي البريطاني المولد لدى المحكمة الجنائية الدولية، إلى عمليات القتل "البشعة" التي قام بها مسلحو "حماس" لمئات من المدنيين في حفل موسيقي، ومدنيين في عديد من المستوطنات بالقرب من حدود غزة، باعتبارها محور تركيز واضح لقضية جرائم حرب.
كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أوضح في مقابلة صحافية الأسبوع الماضي، أنه حتى لو أصدرت المحكمة الدولية أوامر اعتقال تتعلق بالصراع الجاري، فإن المحكمة ليست لديها قوة شرطة وستعتمد على الدول الأعضاء للقيام بالاعتقالات، لكن وفق مراقبين، فإنه بالنظر إلى الدعم الذي تستحوذ عليه إسرائيل من القوى الغربية فإن من غير المحتمل تنفيذ أوامر اعتقال بحق مسؤوليها