هل نحن مجرد «حيوانات» هائمة في الصحراء وبلا وجهة؟ يجب أن نُحذف من الخريطة البشرية تماماً كما حدث مع «حيوانات» سبقتنا على هذه الأرض «الهنود الحمر»، فأبادها «اليانكي» الأمريكي؟ ما ينطبق على الفلسطيني ينطبق طبعاً على العربي عموماً. ليس ذلك انزلاقاً لسانياً، ولكنه جزء من لاوعي الصهيوني. ليس في النظرة فقط، ولكن في الممارسة أيضاً.
روح العربي لا تساوي كثيرًا في مزادات الأرواح عالمياً، فقد خلق الإعلام الغربي، الأمريكي الصهيوني تحديداً، صورة مفبركة كلياً، عن العربي في الموازاة بصورة اليهودي سابقاً، سوّقها على مدار القرن الماضي، بحيث قام بعملية إحلالية اشتغل عليها زمناً طويلاً. من اليهودي المرابي (في ظل معاداة السامية)، الجشع، المحب للمال، المحتال، المتسخ، المناور، المجرم، المتخفي، المخادع، الذي لا يحفظ العهد، إلى العربي الجاهل، المحتقر للمرأة، لا شغل له في حياته إلا الاغتصاب، القاتل، الإرهابي، الحيوان. كلمة حيوان هي نتيجة صيرورة فكرية وممارسة أيديولوجية عنصرية بامتياز، ترسخت في الأذهان من خلال الثقافة الكاذبة التي تم الترويج لها لصناعة رأي آخر يضع اليهودي الصهيوني في رتبة عليا وإخراجه من المرتبة التي وضعته فيها الأطروحات المعادية للسامية، والسينما والخطابات والقنوات التليفزيونية ووسائل الاتصال التي لا تركز إلا على صورة واحدة: العربي الإرهابي وبلا أية إنسانية، مع أن الإرهاب الذي يستعملونه اليوم كسلاح هو نتاج مخبري ومن يتتبع التحليلات الصهيونية البريطانية والأمريكية سيعرف جيداً أن كل ما حدث كان مرتباً مسبقاً، اعتماداً على عناصر حقيقية تتعلق بفساد الأنظمة، تم استغلالها بقوة لا لتغيير الأنظمة، فهي ما تزال في أمكنتها، ولكن لآلة لتفكيك كل ما أنجز في المئة سنة الأخيرة. «لا يجب أن تولد أية دولة عربية نموذجية ديمقراطياً وقوية عسكرياً»، يجب أن يظل العرب بلا أي نموذج يتم الاقتداء به. «ابن لادن» بقاعدته والبغدادي «بداعشه» وغيرهما من التنظيمات المتشظية، أدمت العالم العربي والإسلامي قبل الغرب نفسه الذي دفعت شعوبه المسالمة ثمن «الآلة» التي ساهم في خلقها. فتحريك واستعمال المجموعات الإرهابية كان سهلاً نظراً لمستوى الوعي عندها ولتعامل قياداتها السرية مع مخابر التوجيه الصهيونية نحو تفجير الذات وتدميرها بدل توجيه طاقاتها العنيفة نحو من سلب الأراضي العربية بغير حق ويعمل اليوم على تدمير مدينة بساكنة تجاوزت المليونين «غزة» وتقتيل إجرامي يومي بلا رقيب، في ظل ميزان قوة مختل كلياً تم العمل عليه طوال النصف قرن الأخير ترتبت عنه سيطرة جوية وعسكرية كلية، لا يستطيع العرب حيالها أي شيء اليوم، مهما كانت ضمائرهم وأحزانهم ورغباتهم الباطنية، لم تعد مصر كما كانت ولا بقية الدول العربية القادرة على ضبط إسرائيل.
مصر تم تحييدها منذ اتفاقيات كامب ديفيد؛ والعراق الذي تم تدميره بحجة كاذبة بشهادة المتَّهِم نفسه، وسوريا التي تم تمزيقها ووضع نفطها تحت سلطة أمريكية مباشرة؛ وليبيا التي أغرقت في حرب أهلية بلا أفق سلمي بعد أن تم تدميرها ككيان موحد. الدول العربية التي تتقاسم الحدود مع الكيان الصهيوني كانت تملك قوة عسكرية حقيقية بغض النظر عن الأنظمة، لأن أمريكا وإسرائيل تعرفان جيداً أن الأنظمة ليست قدراً محتوماً (الجملكيات= جمهوريات مملكات)، وأنها ستتغير، وقد يأتي رئيس يحب شعبه ووطنه وأمته فيتغير ميزان القوى بسرعة وتصبح إسرائيل في مرماه. لهذا لم يترك الأمر لأية صدفة قادمة؛ فعطل تقدمها بضرب مراكزها العسكرية حتى النووي منها.
ما هي الدولة العربية التي تستطيع اليوم رفع رأسها عسكرياً أمام إسرائيل؟ لماذا منِع العرب من امتلاك القنبلة النووية وهم قادرون على امتلاكها، لمواجهة غطرسة دولة نووية، لا يحكمها أي نظام دولي؟ رفضت كل المواثيق بما في ذلك الحد من التسابق النووي، وهي تملك اليوم المئات من الرؤوس النووية؟ ورفضت كل قرارات الأمم المتحدة، وترفض اليوم التوقف عن تقتيل الفلسطينيين على مرأى من العالم «المتحضر» الذي يقبل بالجريمة بل ويعمل على تدعيمها. أمريكا التي نحاورها اليوم منخرطة من خلال وزير خارجيتها، منخرطة في الجريمة كلياً، وبلينكن عضو في المجلس الحربي الإسرائيلي، ويتكلم عن عدم توقيف الحرب كما لو كان ضابطاً في جيش «التسهال». ماذا ينتظر من مجرم حرب يزكي يومياً الضربات القاتلة لأكثر من عشرة آلاف فليسطيني نصفهم من الأطفال والنساء، لم تسعهم اليوم المقابر التي امتلأت بأكفانهم البيضاء التي ما يزال الدم يصبغ جنباتها. العربي اليوم في المنطق الصهيوني، منطق الضباع المخادعة، ليس حيواناً فحسب، ولكن مجرد حشرة يجب التخلص منها لتعيش البشرية هانئة. وينسى القتلة المعروفون بـ «الضربات الدقيقة» التي قتلت أكثر من عشرة آلاف مدني وحولت غزة إلى مقبرة إسمنتية، أنهم يصنعون اليوم عداوات القرن القادم وعنفه. يخطئون إذ يظنون أن دم الفلسطيني ماء، الأطفال والأمهات الذين يقتلون اليوم على مرأى عالم متواطئ مع الجريمة، والجرحى والعائلات المكلومة، كلها قنابل موقوتة لن تصمت. الموت يجلب الموت الأمرّ. إسرائيل أعماها الحقد، وهزيمة 7 أكتوبر ضد مؤسسة عسكرية فخورة بنظامها التكنولوجي الرقابي، تؤرقها. مجرم الحرب، نتنياهو وضباعه، والمطالب من طرف «عدالة» بلده سيدفع بالحرب إلى مداها الإجرامي ضارباً عرض الحائط باتفاقيات أوسلو التي قبل بها الفلسطينيون على الرغم من مرارتها، حتى هذه الاتفاقيات المبتورة دمرها ليجعل من السطلة الفلسطينية لا شيء، معزولة كلياً.
ما نسمعه من تصريحات هاربة من فم شخص عسكري «غير مسؤول» أو وزير، ليست اعتباطية، فهي حقيقية وبالونات اختبار، مؤسَّسَة على قرارات مستقبلية مثل ضم غزة لمنع تسلل «الإرهابيين»، فهم حائط الصدّ بالنسبة لأوروبا كما قال نتنياهو، وطرد الغزاويين نحو مصر، وتطويق الضفة الغربية وطرد «الحيوانات» نحو الأردن، الشوط الأول والاستراتيجي لإسرائيل الكبرى في سباق ضد الساعة يضمنه «ضبع» البيت الأبيض قبل أن تزيحه الانتخابات القادمة وفي ظل هيمنة اللوبي الصهيوني على مختلف قنوات القرار الأمريكي، في انتظار المرحلة الثانية التي ستجعل من إسرائيل قوة مطلقة في المنطقة عسكرياً واقتصادياً، بعد فتح قناة البحر الأحمر التي ستدمر مصر اقتصادياً بعد تعطيل قناة السويس التي تشكل تنفساً لمصر ومنع تدفق مياه النيل التي سيطرت عليها الدولة الإثيوبية بمساعدة إسرائيلية كبيرة تجعلها مقرراً كبيراً، لتصبح أكبر قوة عربية تحت رحمة وضعية غير مسبوقة تاريخياً. عندما قلت إن العرب يسيرون نحو انطفائهم في رواية «حكاية العربي الأخير» قبل سبع سنوات، اعتبر ذلك تشاؤماً كبيراً، ديستوبيا غير مبررة. ها هي الحقيقة تتجلى بشكل أعنف مما تصورته الرواية. قيمة روح العربي صفر. مقابل ألف إسرائيلي يقتل نظام الضباع الإجرامي أكثر من عشرة آلاف وما يزال العدّ مفتوحاً. وعلى الرغم من هذا التشاؤم الكبير الذي له ما يبرره اليوم، ما يزال العرب يملكون سلاحاً جباراً، هو سلاح الطاقة، يستطيعون استعماله بذكاء كبير، ولو للتهديد، في اجتماع رسمي بالجامعة العربية التي عطل دورها، والقيام بما قام به المغفور له الملك فيصل. في ثانية واحدة لسماع الخبر، تغيرت الموازين في أوروبا وأمريكا، وأصبح هذا العربي «الحيوان» قوة لها صوتها محلياً وعالمياً.