على مستوى الكرة الأرضية، وفي كل الحروب التي خاضتها الشعوب شوقاً للحرية، وجد بينها المضحي من أجل الوطن، ووجد بينها المنتفع من الوطن، وكما وجد الصادق الأمين وجد المنافق اللئيم، وكما وجد من يعمل من أجل حرية شعبه، ويحرضهم على مقاومة المحتلين، وجد من يخرج عليهم مشككاً بمصداقية المقاومة، ويشكك في أهداف قادتها، وقدرتهم على خوض المعارك ضد الأعداء، وفلسطين ـ في معركة طوفان الأقصى ـ ليست استثناءً، وقد خرج علينا بعض المشككين بأهداف المعركة، والمستخفين بنتائجها، وهم يرددون التالي: إذا كان الهدف من معركة طوفان الأقصى هو تحرير 5000 أسير فلسطيني من السجون الإسرائيلية، فسحقاً لهذه المعركة الخاسرة، ويضيف مراهقو السياسة، أولئك المشككون بقدرات الشعب الفلسطيني، وقد ضاق وعيهم الوطني، واقتصر على المقارنة الساذجة بين الأرقام، فيقولون: إن الحزن على فقدان عشرات ألاف الشهداء والجرحى والمفقودين، يتجاوز مرات كثيرة فرحة لقاء آلاف الأسرى، الذين سيفرج عنهم بصفقة التبادل، وأن تحسر الفلسطينيين على فقدانهم آلاف البيوت التي دمرها القصف الإسرائيلي، يفوق بمرات عدد البيوت التي ستدخلها السكينة لتحرير الأسرى، وأن معاناة عشرات آلاف المهجرين من بيوتهم والنازحين عنها، يتجاوز عدد الهانئين المطمئنين بعودة أسراهم المحررين، بل يبالغ العاجزون عن ممارسة الفعل المقاوم، والكارهون للمواجهات، ويقولون: لو شاورتم الأسرى في السجون الإسرائيلية، بين حريتهم الشخصية، وتدمير مقدرات الشعب الفلسطيني في غزة، وذبح عشرات آلاف الأطفال والنساء، لو تشاورتم معهم، لرفض شرفهم الوطني أن يخرجوا من السجون على حساب شلال الدم النازف، وكانوا سيختارون البقاء في السجن، دون الخروج على حساب تهجير الشعب الفلسطيني، وتدمير مقومات حياة الملايين من سكان قطاع غزة. المقاومة وضعت القيادة الإسرائيلية أمام الحقيقة المرة، بأن الشعب الفلسطيني لا يلين، ولن يتنازل عن حقه بأرضه، وأن الفلسطيني العنيد، هو اللعنة التي فضحت أوهام هذا الكيان ذاك التفكير المنحرف في التعامل مع القضية الفلسطينية، الذي يقيس حسابات الربح والخسارة في المعارك بمردودها المادي الضيق، وبقراءة سطحية للأحداث وفق المجريات اللحظية في الميدان، دون التعمق بدلالات معركة طوفان الأقصى السياسية والاستراتيجية، ومردودها المعنوي، وتأثيرها المباشر على مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا ما سأذكره كحقائق يتوجب الالتفات إليها، وهي كالتالي: أولاً: المعركة على أرض غزة تجري مع العدو الإسرائيلي تحت عنوان (طوفان الأقصى) وللعنوان دلالة سياسية أوسع بكثير من مجرد تحرير آلاف الأسرى من السجون الإسرائيلية، رغم أهمية ذلك، ورغم الثمن الغالي الذي يدفعه الشعب الفلسطيني من أجل تحرير ِأسراه، أولئك الذين نسيهم القريب والغريب، وتخلت عنهم الإنسانية الجاحدة، وأغمض العالم عينيه عن أربعين سنة من عذاب بعضهم في الزنازين، لقد شاب بعضهم، وارتقى شهيداً خلف الأسوار بعضهم، ولم تغفر لهم شيخوختهم، ولم تفرج عنهم أمراضهم، لذلك فالتضحية من أجل هؤلاء الأسرى هي تضحية من أجل القيم الإنسانية، وفيها تأكيد على أن الإنسان العربي لا يقل قيمة وأهمية ومكانة عن بقية البشر، وهذه رسالة إنسانية تحاكي القيم الحضارية، قبل أن يكون لها مردود سياسي، يعكس الإرادة الفلسطينية التي تصطدم بالأطماع الإسرائيلية في التحكم بمصير الفلسطينيين، فحرية الأسرى مقدمة لحرية الإنسان، ومقدمة لتحرير المسير على طريق تحرير فلسطين. ثانياً: المعركة التي تجري على أرض غزة لها هزاتها الارتدادية على مجمل القضية الفلسطينية، فهزيمة العدو الإسرائيلي على أرض غزة، يشكل الضربة القاضية للمشروع الإسرائيلي، ويدمر الفكرة الاستيطانية في السيطرة على أرض الضفة الغربية، والتي يسميها الصهاينة «يهودا والسامرا»، ويزعمون أنها أرض الآباء والأجداد، إن هزيمة فكرة الاستيطان الآمن في العقلية الصهيونية، بمثابة مكسب سياسي استراتيجي، يستحق التضحية. ثالثاً: معركة طوفان الأقصى وضعت حداً لفكرة المتطرفين الصهاينة الطامعين بتدمير المسجد الأقصى، ومن ثم بناء هيكلهم المزعوم، وقد بدأوا بتطبيق مشروع تهويد المسجد الأقصى عملياً، من خلال التقسيم الزماني للمسجد الأقصى، ومن خلال النفخ بالبوق، وممارسة الصلوات الخرافية، بل أحضروا البقرة الحمراء من أمريكا، ولها مواصفاتها التوراتية، كما يزعمون، وهي موجودة لديهم، وجاهزة للتبرك، والتقرب بها إلى ربهم، الذي لم يبارك لهم بناء هيكلهم، بعد 49 يوماً من معركة طوفان الأقصى، وقد انقلبت الموازين، وتبخر الحلم الصهيوني على نار السابع من أكتوبر. رابعاً: الدمار الكبير والمهول الذي لحق بالمباني والأبراج في غزة لا يرتقي إلى مستوى ثقة الفلسطيني بنفسه، وبقدراته على مواجهة عدوه، وفي ذلك رسالة بأن الفلسطيني الذي تحمل عبء الحرب وحيداً، وقدم كل هذه التضحيات، وصمد رغم كل هذا الدمار الذي لم يلحق بأي مدينة على وجه الأرض، هذه التضحية المهولة وضعت القيادة الإسرائيلية أمام الحقيقة المرة، بأن هذا الشعب الفلسطيني لا يلين، ولن يتنازل عن حقه بأرض فلسطين، وأن الفلسطيني العنيد، هو اللعنة التي فضحت أوهام هذا الكيان. خامساً: معركة طوفان الأقصى قزمت الجيش الإسرائيلي، وحطمت الغرور والصلف الذي ميز قادته، فجاءت معركة طوفان الأقصى لتفضح أكذوبة الأمن الإسرائيلي المسيطر على المنطقة، تفضح أكذوبة الجيش الذي لا يقهر، وتفضح أكذوبة السلاح المتفوق، وقد أعاد هذا الانهيار في الأسطورة الإسرائيلية الصراع العربي الفلسطيني إلى واجهة الأحداث الدولية والإقليمية، وأعاد للقضية الفلسطينية قيمتها المعنوية، وأهميتها بالنسبة للشعوب العربية، وقد التف من حولها كل شعوب الأرض، مؤيدين ومناصرين. سادساً: معركة طوفان الأقصى فضحت الدعاية الإسرائيلية عن الهولوكوست، وعن المحرقة، وإذا كان سكان الكرة الأرضية لم يشهدوا الهولوكوست، ولم يعرفوه إلا من خلال الدعاية الصهيونية، فإن المحرقة ضد الشعب الفلسطيني تعرض على فضائيات العالم بالصوت والصورة، وفي ذلك ردع للأكذوبة الصهيونية، وبث حي للمظلومية الفلسطينية، التي راحت تكتسح وجدان الشعوب في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وفي شرق آسيا، وهذا نصر عظيم للرواية الفلسطينية التي لا تقف عند حدود البلاد العربية والإسلامية، وإنما هو فتح لمناطق إنسانية غربية، كانت مغلقة بفعل الدعاية الصهيونية. سابعاً: معركة طوفان الأقصى هزت الواقع العربي الراكد، وأيقظت في الشعوب العربية قيمتها الحضارية والإنسانية، وأنها لا تقل تفوقاً وإبداعاً عن بقية الشعوب، بل إنهم قادرون على هزيمة إسرائيل، شرط أن تتوفر لهم الحرية والديمقراطية، وشرط أن يمتلك المواطن العربي إرادته، ليواصل صناعة مستقبله، بعيداً عن ديكتاتورية الأجهزة الأمنية، التي أعاقت تقدم الإنسان العربي، وقطعت له شرايين التوفق والإبداع. ثامناً: لقد نجحت معركة طوفان الأقصى في كسر الإرادة الإسرائيلية، وفرضت عليه إدخال الوقود والمساعدات الإنسانية إلى غزة، في الوقت الذي عجز 57 رئيسا وملكا عربيا وإسلاميا، التقوا في الرياض، عن تقديم لتر وقود واحد إلى غزة، فجاء طوفان الأقصى ليفتح بوابة معبر رفح بيد المقاومة القوية، لا بيد الأنظمة العربية، التي أمست تعمل بواباً للمعبر، تفتحه وتغلقه وفق الأوامر الخارجية. تاسعاً: رضوخ القيادة الإسرائيلية لشروط المقاومة، وموافقتها على التهدئة، ومن ثم صفقة تبادل الأسرى، دليل على انكسار الحلم الإسرائيلي، واعتراف ضمني بفشل الجيش الإسرائيلي في تحرير الأسرى بالقوة، وفي ذلك رسالة إلى المجتمع الإسرائيلي، بأن زمن انتصاركم قد ولى، وأن زمن استقراركم وأمنكم قد ولى، وجاءكم زمن الانكسار على يد الفلسطيني الجديد، وهذا هو الرعب الذي سكن مفاصل المجتمع الإسرائيلي، وشكّل الضربة القاضية للأوهام الإسرائيلية، بأنهم قد حققوا الأمن والرخاء الاقتصادي، وأنهم صاروا جزءاً من الشرق، وهذه الصدمة الموجعة للوعي الإسرائيلي، فرضت على الكثير منهم التفكير الجدي بالرحيل عن هذه الديار. عاشراً: كشفت معركة طوفان الأقصى أكذوبة التطبيع مع العدو الإسرائيلي، وأكذوبة السلام مع الإرهابيين، الذين يقترفون المجازر بحق الأطفال والمدنيين، وكشفت الحقيقة التي تؤكد إن الفلسطيني لم يفرط بأرضه، ودافع عن وطنه فلسطين بروحه ودمه، وأن الفلسطيني لم يبع أرضه، ولم يخن وطنه كما تروج لذلك أبواق الدعاية الإسرائيلية، فجاءت معركة طوفان الأقصى لتجلي التاريخ الفلسطيني من التزييف، وتشرح بشكل عملي الكيفية التي تم فيها تهجير الفلسطينيين، وطردهم من أرضهم، فصاروا لاجئين لأكثر من 75 سنة، لم يفرط فيها الفلسطيني بوطنه. كاتب فلسطيني