هل حققت الزيارة الخامسة لوزير الخارجية الأمريكي للمنطقة ما لم تحققه الزيارات الأربع السابقة؟ ولأي مدى تختلف مخرجات هذه الزيارة على الأرض وداخل الغرف الموصدة عن صورتها في الإعلام وهي تبدو اليوم زيارة عقيمة؟ ولماذا تواصل حكومة الاحتلال رفض طلبات أمريكية متكررة ومعلنة من إسرائيل رغم تبعية هذه للولايات المتحدة التي بدونها ستضطر لمحاربة حزب الله بالعصي والحجارة كما قال معلق إسرائيلي بارز؟
الجواب للسؤال الأخير يبدو مرتبطا بنية نتنياهو استغلال مأزق البيت الأبيض عشية الانتخابات الأمريكية وضعف الإدارة الأمريكية في هذا التوقيت لمواصلة الاستغلال والتسويف والمناورة مراهنا على أن واشنطن لن توقف التسليح ولن تتراجع عن “الفيتو” في مجلس الأمن.
عشية وصول وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن قال رئيسها جو بايدن ردا على طلبات مواطنين أمريكيين بوقف الحرب على غزة خلال زيارته كارولاينا إنه يعمل بهدوء مع حكومة الاحتلال لإخراج قواتها من القطاع. واليوم الأربعاء قال ناطق بلسان البيت الأبيض إن واشنطن لا تطالب بوقف الحرب على غزة الآن بل تدعو لهدن إنسانية.
ينهي بلينكن اليوم الأربعاء زيارة خامسة وبائسة للمنطقة ويعود لبلاده خالي الوفاض ودون تحقيق تقدم في الأبعاد الجوهرية المتعلقة بالحرب
في التزامن ينهي بلينكن اليوم الأربعاء زيارة خامسة وبائسة للمنطقة ويعود لبلاده خالي الوفاض ودون تحقيق تقدم في الأبعاد الجوهرية المتعلقة بالحرب ودون استجابة إسرائيل للمطالب الأمريكية وفق ما تؤكده تسريبات وتصريحات إسرائيلية قبيل وبعد هذه الزيارة، التي بدا فيها بلينكن عاجزا ومرتبكا خلال مصافحته نتنياهو، حسب لغة الجسد وملامح الوجه وهذا ما يعبر عنه بسخرية كاريكاتير تنشره “هآرتس” وفيه تدخل سكرتيرة نتنياهو عليه وتبلغه أن بلينكن قد وصل (يقف خلف الباب مرتبكا) فيرد نتنياهو بالقول مستخفا: يعود مجددا!
عدا التوافق على تحاشي توسيع دائرة القتال مع حزب الله، كل لحساباته، في اليوم السادس والتسعين للحرب على غزة تبدو إسرائيل غير مكترثة عمليا بطلبات الإدارة الأمريكية المعلنة أو المسربة في الصحف بكل ما يتعلق بالحرب على غزة: وقف الحرب بهدوء، السماح للغزيين بالعودة لشمال القطاع وزيادة المساعدات الإنسانية.
عوامل رفض عودة الغزيين لديارهم
رغم الأحاديث الأمريكية المتتالية في الأسابيع الأخيرة عن زيادة حجم المعونات الإنسانية ما زالت أجزاء واسعة داخل القطاع تكابد قلة الغذاء والدواء وسط تحذيرات دولية أيضا من مخاطر الجوع والتجويع. بما يتعلق بمطلب السماح للغزيين بالعودة لديارهم في شمال القطاع رفضت إسرائيل ذلك ونقل عن رئيس حكومتها نتنياهو قوله إنه وعد بلينكن بعدم دفع أهالي غزة للهجرة خارج القطاع، وعلى الأرض يواصل وزراؤه وآخرهم بتسلئيل سموتريتش الدعوة لفتح باب “الهجرة الطوعية”.
في لقاءاته مع الجهات الإسرائيلية كرر بلينكن طلبه لها: “أعدوا الأرضية لعودة الغزيين لشمال القطاع” وهذا ما تشير له بيانات الخارجية لكن إسرائيل ترفض. رسميا عللت حكومة الاحتلال رفضها عودة أهالي شمال غزة لبيوتهم بالزعم أن المنطقة ما زالت حلبة قتال ويطلق منها صواريخ لكن هناك حسابات أخرى لديها غير معلنة.
إسرائيل تريد مساومة حماس والضغط عليها لإبداء مواقف لينة حول استعادة المحتجزين
إسرائيل تريد مساومة حماس والضغط عليها لإبداء مواقف لينة حول استعادة المحتجزين، وتحاشي ردود فعل غاضبة لدى سكان “غلاف غزة” الراغبين بالعودة أولا لمستوطناتهم. ولا يقل أهمية عن كل ذلك محاولات إسرائيل الانتقام واحتلال وعي الغزيين وكل الفلسطينيين من خلال تكريس حالة البؤس واللجوء الجديد تطبيقا لرؤية “إنتاج نكبة ثانية” التي دعت لها جهات إسرائيلية رسمية وأحيانا بتصريحات واضحة مباشرة استخدمت مصطلح “نكبة” كما فعل وزير الزراعة رئيس الشاباك الأسبق عضو مجلس الحرب آفي ديختر.
في المؤتمر الصحافي مع نتنياهو تحدث بلينكن بهذا الخصوص بطريقة تستبطن تأييدا فعليا للموقف الإسرائيلي بقوله إن هناك توافقا على بعثة أممية تصل للقطاع لبحث إمكانية عودة الغزيين للشمال وهناك تحديات كثيرة أمام عودتهم: “أسلحة وذخائر وبنى تحتية غير صالحة”.
إسرائيل تخفف حجم التوغل البري
وبما يتعلق بطلب واشنطن المتكرر منذ أكثر من شهر حول تخفيف حدة القتال والأحاديث عن الانتقال لمرحلة ثالثة من الحرب يواصل المستويان السياسي والعسكري في إسرائيل الحديث بمصطلحات ضبابية وأحيانا متناقضة هنا لكنهم يؤكدون استمرار الحرب طيلة العام 2024 تزامنا مع تخفيف أعداد القوات البرية المتوغلة. ويبدو أن السبب الأهم هو تحاشي الخسائر البالغة في صفوف الجيش الغازي. هذا الجيش الذي تماثل في البداية مع الحكومة ورغب بمواصلة حرب واسعة ذات الأهداف العالية المعلنة من أجل مسح عاره هو الآخر في السابع من أكتوبر يرى في الشهر الأخير ضرورة إعادة انتشاره والسعي السريع لتحديد أهداف عملية لمواصلة الحرب ورسم ملامح “اليوم التالي” وصولا لإنهاء الحرب على غزة خوفا من المراوحة في المكان والتورط بحرب استنزاف.
ويواصل الجيش إرسال هذه الرسالة من خلال معلقين عسكريين مقربين ومن خلال تسريبات لكن القرار الأعلى بيد المستوى السياسي ورئيسه نتنياهو المتهم إسرائيليا بخلط الأوراق والرغبة باستبعاد يوم الحساب الداخلي وإطالة عمر حكومته غير مكترث حتى الآن بطلب البيت الأبيض بتغيير طريقة القتال بشكل جوهري وبالتأكيد وقف الحرب بالسرعة المطلوبة.
هناك جهات إسرائيلية غير رسمية تعتقد أن إسرائيل بدأت فعليا بخطوات حقيقية على الأرض لتقليص توغلها البري والاستعداد للقيام بـ”عمليات جراحية”
في المقابل هناك جهات إسرائيلية غير رسمية تعتقد أن إسرائيل بدأت فعليا بخطوات حقيقية على الأرض لتقليص توغلها البري والاستعداد للقيام بـ”عمليات جراحية” وهذا مصطلح ضبابي ربما يستبطن انسحابا إسرائيليا تدريجيا، وفق ما يؤكده على سبيل المثال اليوم رئيس قسم دراسات الشؤون الفلسطينية في جامعة تل أبيب الدكتور ميخائيل ميليشتاين للإذاعة العبرية الرسمية، وهو ضابط رفيع في الاستخبارات العسكرية سابقا.
في المقابل تفيد تسريبات إسرائيلية أن بلينكن ورغم الحديث عن “رسالة التطبيع السعودية“، وجه انتقادات حول القضية الفلسطينية داخل القطاع وقال إنه من “غير الممكن كنسها تحت الطاولة” داعيا لحل فوري لها – وفق ما توضحه صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية. وتنوه “يسرائيل هيوم” لقول بلينكن إن هناك حاجة لرؤية سياسية أكبر من البحث عن جهات محلية داخل القطاع لإدارة شؤونه بعد الحرب منبهة أن المسؤولين الإسرائيليين الكبار يعتقدون أنه يمكن تجاهل القضية الفلسطينية واستئناف مسيرة التطبيع.
كما قالت إن بلينكن عاد من زيارة دول عربية دون بشرى لليوم التالي فالقادة العرب رفضوا المشاركة في إدارة شؤون غزة بعد الحرب منوهة أنه قال لغانتس خلال اجتماعهما إنه يتوقع من إسرائيل أن تبدأ بصياغة وطرح تصور “اليوم التالي” وعقب غانتس بالقول إنه موافق على ذلك لكنه ذكر أن “الحرب ما زالت مستمرة وينبغي الاستمرار بالسعي لتحقيق أهدافها”.
كما نقلت عن الوزير بن غفير ما من شأنه كشف حقيقة توجهات حكومة نتنياهو بشكل عام حيث قال: “سيدي وزير الخارجية بلينكن، هذا ليس الوقت للحديث بلطف عن حماس، فهذا هو الوقت لاستخدام العصا الغليظة”.
لكن هذا المزاج الإسرائيلي الداعم لاستمرار الحرب لا يقتصر على أنصار ائتلاف نتنياهو فعلى خلفية الانتقال من المرحلة الثانية للثالثة من الحرب على غزة حمل وزير القضاء الإسرائيلي الأسبق حاييم رامون على وزير الأمن غالانت وقال إنه لا يتحلى بالشجاعة فقد تنازل عن “تدمير حماس” معللا حملته على غالانت لتقليصه حجم التوغل البري بالقول “واضح أنه لا يمكن احتلال رفح ومحور فيلادلفيا بعمليات خاصة”.
خسائر الجيش عامل فاعل
يشار إلى أن بلينكن التقى أيضا ممثلين عن عائلات المحتجزين في غزة ووصف على مسامعهم المساعي المتجددة لتحقيق صفقة تبادل جديدة ونقل بعض المشاركين في الاجتماع عن بلينكن قوله إن إسرائيل أظهرت في الأيام الأخيرة ليونة في موقفها دون أن يتوسع بالحديث عن ذلك.
وفي المؤتمر الصحافي مع نتنياهو قال بلينكن “إننا مشغولون باستعادة المخطوفين، ومنع اتساع القتال وتقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين ونحن نقف لجانب إسرائيل، حماس تواصل دعواتها لإبادتها”.
على خلفية هذا الأفق المسدود المتزامن مع سجالات وحسابات إسرائيلية داخلية متشابكة وتعيق فرص إنهاء الحرب ترتفع أعداد القتلى والجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي وهذا من شأنه زيادة حالة الغضب والاحتجاج داخل إسرائيل نحو إنهاء هذه الحرب الوحشية بحال استمر في الارتفاع دون استعادة المحتجزين واستمرار حرب الاستنزاف في شمال البلاد أيضا