لم تنتهج حركتا حماس والجهاد الإسلامي مشروع المقاومة كسبيل أوحد لتحرير فلسطين، إلا بعد فشل النظام العربي طيلة عقود ثمانية، في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، خسروا خلالها حروباً فاصلة مع كيان الاحتلال، وكذلك، بعد فشل الفصائل الفلسطينية التي تنضوي تحت عباءة منظمة التحرير، والسلطة الفلسطينية لاحقًا، الذين اختاروا طريق المفاوضات والسلام، منذ أزيد من ثلاثة عقود، وجلسوا في رام الله بخفي حنين.
ولكي نضع الأمور في سياقاتها الصحيحة؛ فان فشل مشروع السلام الذي كان متوقعًا مع كيان الإحتلال، منذ العام 93 وقبلها، وخلوّ وفاض القيادات الفلسطينية وفصائلهم وسلطتهم اليوم، وفشلهم بالحصول على بند واحد مما اتفقوا عليه مع كيان الاحتلال في اوسلو: من دولة فلسطينية مستقلة، والقدس الشرقية، وعودة اللاجئين وحق التعويض، وتفكيك مستوطنات الضفة، وترسيم الحدود، الخ. وبقاء هذه الاتفاقيات حبرًا على ورق، ذهبت أدراج الرياح من دون رجعة في حقبة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، الذي ضرب والاسرائيليون بمعاهدة اوسلو ومن وقعوها، عرض الحائط.
ولأن الشعوب المحتلة، لها كامل الحق بتحرير أوطانها، والتحرر من تحت نير الإحتلال، بشتى الطرق والوسائل، فمن الطبيعي جدًا، والواجب المقدس، أن ينتهج الشعب الفلسطيني طريق المقاومة، مهما بلغت التضحيات والأثمان.
مشروع المقاومة، ولد بشكل طبيعي ولازم، في ظل غياب تام للمشروع العربي، وفشل النظم طيلة عقود طويلة بطرح مشاريع فردية أو جماعية، توقف نزيف الأمة، وتضع الحلول لمختلف قضايا شعوبها المصيرية، وتعيد ألق الحضارة الاسلامية التي أصبحت مرتهنة، وخاضعة، وتابعة.
بموازة ذلك، تتسابق القوى الدولية الكبرى في العالم للهيمنة على الشرق الأوسط، والعالم العربي، والسيطرة عليه، نظرًا لموقعه الاستراتيجي، وثرواته الهائلة، وإرثه الحضاري الذي يتصادم مع حضارات متعددة، وتزدحم مشاريع: أمريكية واسرائيلية وإيرانية وتركية، وروسية وصينية أيضًا، في قلب العالم العربي، فيما العالم العربي تائه وسط الزحام، وبلا مشروع خاص، ودون هوية، بعد أن وضع ابناؤه مشروعهم التاريخي العظيم خلف ظهورهم، ونأوا عنه، حتى يقضي الله بهم أمرًا كان مفعولًا.
الشرق الأوسط، الذي لا يحبذ البعض تسميته التي تعود للاحتلال البريطاني، يقع في قلب العالم، ويحظى بموقع استراتيجي بالغ الأهمية، يصل بين قارات ثلاث، ويمتد من البحر المتوسط غربًا إلى الخليج العربي شرقًا، ومن البحرين الأسود وقزوين شمالاً، إلى الصحراء الكبرى والمحيط الهندي جنوباً، ويشرف على أكبر المحيطات والأبحر والممرات المائية التي تتحكم بسلاسل التوريد العالمية، من باب المندب ومضيق هرمز والبوسفور إلى الدردنيل، ويقبع على أضخم مخزون إحتياطي من النفط العالمي، إضافة إلى أنه مهد الحضارات القديمة، والرسالات السماوية.
ولجملة الأسباب هذه بالغة الأهمية والخطورة، ربما جعلت منه لعنة الجغرافيا، وسوء إدارته، نهبًا لكل غاز وطامع، وفتحت شهية الدول العظمى للسيطرة عليه، خاصة وأن دول المنطقة عاشت في أتون صراعات وحروب بينية، وخلافات سياسية وعصبية ومذهبية، حوّلتها إلى قبائل متناحرة، متشظية، وأتاحت للقوى الطامعة فيها استباحتها كيفما شاءت.
المشاريع الكونية تزدحم بالمنطقة، والعالم العربي، الذي فقد جميع مقومات قوته، وحيلته، ومنعته، وسلّم ذقنه صاغرًا لمن هبّ ودبّ طامعًا وطامحًا بالسيطرة عليه، بدءًا من المشروع الصهيوني المزروع في قلبه، الهادف للهيمنة والسيطرة عليه، وإقامة دولته التلمودية الكبرى ما بين نيله وفراته، إلى المشروع الأمريكي القائم على بسط نفوذه، والسيطرة على ثرواته ومواقعه الاستراتيجية، وحماية الكيان الاسرائيلي، للمشروع الايراني الطامح باعادة إحياء الامبراطورية الفارسية، والسيطرة على البلاد العربية الذي اعترفت به مرجعيات شيعية علانية، بأنها سيطرت على “أربع عواصم عربية” وأصبحت خاضعة تحت مظلتها!
زد على ذلك المشروع التركي، الذي يسعى على قدم وساق لإعادة إنتاج الخلافة العثمانية، ومشروع القيصر الروسي الحالم باستعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية، ومقاسمة الهيمنة على المنطقة مع الأمريكان، وحلمه الأزلي بالوصول إلى المياه الدافئة، والسيطرة على حوض المتوسط، إلى المشروع الصيني المتحفّز لتوسيع نفوذه في المنطقة، وإحياء طريق الحرير القديم.
المثير للسخرية والأسف معاً، أن جميع هذه المشاريع الكونية المتصارعة، تنفذ في منطقة تعيش دولها وشعوبها بلا مشروع يذكر!، اللهم باستثناء مشروع “مبادرة بيروت العربية” الذي لم يكترث به الكيان الصهيوني ورماه وراء ظهره، و”المشروع الابراهيمي” الذي رد عليه الكيان بحرب إبادة في غزة.
يجب أن نعي تماماً : إن الحرب المسعورة التي يشنها كيان الإجرام الصهيوني على غزة، بمشاركة وإسناد دول غربية وشرقية، لم تكن لتنفذ بهذا القدر المفرط من القوة، لولا الخوف من ولادة مشروع جديد من رحم غزة!، ينطلق من مرجعية إسلامية، أولى شرارته المقاومة، ويعيد بث الحياة في المشروع الاسلامي الكبير، الذي يخيف أكثر ما يخيف، ويهدد، المشروع الصهيوأمريكي تحديداً، مثلما يهدد نظمًا عربية، بعد أن أصبحت المقاومة تشكل حالة موحية لشعوبها المتحفزة لاحياء مشروعهم التاريخي، وللحرية والتحرر.
إن خروج المقاومة الفلسطينية منتصرة في حربها مع الكيان الصهيوني المؤقت، يعيد تدشين اللبنة الأساس، في مدماك المشروع الحضاري والعقائدي في المنطقة، وهي النقطة الأهم، والأخطر، على مسرح الأحداث التي تشهد مخاض حقبة تاريخية مهولة فاصلة، ما كان قبلها، لن يكون كما بعدها أبدًا.
وربما تكون المقاومة الفلسطينية التي تنوب اليوم عن ملياري مسلم، هي المجددة لأمر الدين الإسلامي للقرن الواحد والعشرين، مصداقًا لقول النبي صلوات ربي عليه وسلم : “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها أمر دينها”!
كاتب أردني