تحصل حتى الآن من نتائج اقتراع الفاتح من سبتمبر ما يمكننا من الحكم عليه، هذا الاقتراع الذي سبق وأن وصفته في مقال سابق بأنه اقتراع في غاية التعقيد، وهو الوصف الذي أجمع عليه كل المراقبين فيما بعد، حيث كان واضحا مدى الصعوبات التي سيتلقاها الناخبون في التعامل مع الكم الكبير من اللوائح والخانات والشعارات والأسماء.. مما انعكس أيضا على بطء عمليات الفرز
وإعداد وإعلان النتائج، كما ظهر أيضا ما أشرت إليه من حضور كبير للبطاقات اللاغية التي من المنتظر ألا يقل عددها عن ما سجلته خلال انتخابات 2013.
أعلنت أحزاب المعارضة المقاطعة للانتخابات السابقة مشاركتها في هذه الانتخابات رغم ما قالت إنه يقين منها بأنها ستكون مزورة، كما يفعل المطرب الذي يستبق حكم مستمعيه على صوته وأدائه بالقول سأغني لكم رغم أنني " الليلة باح " لكي يلتمسوا له العذر إذا كان أداؤه ضعيفا.. ولا يفاجئنا حديث المعارضة اليوم عن التزوير بل وما تقول إنه التزوير الفاحش، فذلك يدخل في إطار رفع الحرج عنها أمام مناصريها الذين كانت تعدهم باكتساح هذه الانتخابات من جهة، ومن جهة أخرى هو خطاب موجه للخارج للتشويش على موريتانيا ونظامها وديمقراطيتها، مثلما يتعامل الصياد مع الغزال عندما لا يستطيع اصطياده فعلى الأقل " إخصَّرْ معشاه "، فإذا لم تستطع المعارضة هزيمة الظام، فعلى الأقل تكدر صفو الانتخابات داخليا وخارجيا بالحديث عن التزوير!
ولا نعرف كيف ومتى وأين تم هذا التزوير، إذا كانت أغلب مكاتب التصويت بها ممثلون للمعارضة حضروا فرز النتائج وعدها وتوقيع محاضرها، بحيث سيكون أي تغيير لاحق فيها واضحا للجميع، ويمكن لكل متضرر من ذلك التغيير اكتشافه وبالتالي التقدم بطعن فيه.. ولم يكن تظاهر واحتجاج المعارضة بالأمس أمام لجنة الانتخابات بحجة تأخر إعلان النتائج أيضا سوى جزء من هذه الدعاية واستباق النتائج بالتشويش على العملية ما دام الكل، بمن في ذلك المعارضة، يدركون تعقيد هذه الانتخابات وكثرة لوائحها ومترشحيها وما يتطلبه ذلك من جهود ووقت لعمليات الفرز والعد والجمع والتحري والمراجعة والتصحيح.. والغرض من ذلك كله هو الدقة والمصداقية وإعطاء كل ما له، لكن ما له فقط..
فلماذا إذا كانت هناك إمكانية أو نية في التزوير يطوف رئيس الجمهورية بكافة ولايات البلاد تعبئة للحزب الحاكم وهو من بيده، كما يزعمون، إمكانية تزوير الانتخابات لصالح هذا الحزب دون هذا العناء والتعبئة المكثفة؟
ولماذا إذا كان حصل تزوير يدخل الحزب الحاكم شوطا ثانيا في مناطق عديدة من البلاد، ويخسر بلديات ومقاطعات بالعاصمة ومناطق الداخل على حد سواء، ويتقاسم نواب المقطعات التي تخضع لعامل النسبية مع أحزاب أخرى معارضة وموالية بواقع نائب واحد له ونائب لكل من تلك الأحزاب، ولا يكتسح أو يستولي على كل هذه الدوائر كما كان يحدث مع الأحزاب الحاكمة سابقا؟!
ثم لماذا إذا كانت هناك نية في التزوير وتغيير خيارات الناخبين لا تبقى الدولة والرئيس عاضين بالنواجذ على تحييد مال الدولة عن العملية الانتخابية، ولم تجعلهما المخاوف من شدة المنافسة يحيدان عن ذلك القرار؟ حيث رأى الكل، مرشحين للحزب ومراقبين عاديين، أن الأموال التي أدار بها الحزب الحاكم حملته كانت بالكاد تكفي لطبع الصور والشعارت وتموين مقرات الحملة بالشاي والخبز الصباحي.. وأن ما تم إبلاغه للمترشحين في بداية الحملة بتحمل مصاريف حملاتهم لم يتغير فيه شي؟!
نقول ذلك لأننا عشنا حملات للحزب الحاكم في عهد سابق تفتح خلالها أبواب خزينة الدولة والبنك المركزي والمؤسسات العمومية على مصراعيها أمام الحزب الحاكم للسحب منها بدون حدود ولا حساب، وشحن أرصدتها في الصناديق إلى عموم التراب الوطني لشراء الذمم وترضية المغاضبين، فهل لو كان ذلك الأسلوب استخدم اليوم كان سيكون هناك مغاضب واحد للحزب الحاكم، أحرى مئات المغاضبين الذين استفادت من مغاضبتهم الأحزاب الأخرى بما في ذلك أحزاب المعارضة؟ّ! اتركوها عنكم إذن انتخابات جرت في ما هو ممكن ومتاح من الشفافية والمصداقية..
أطلقت المعارضة المقاطعة لانتخابات 2013 وتلك المشاركة فيها على تلك الانتخاباتت إسم الانتخابات القبلية، بينما لم نسمح اليوم أيا من قادة هذه الأحزاب يتحدث عن القبلية أو الانتخابات القبلية، لماذا؟! لأنهم كلهم وبدون استثناء كانوا هم والحزب الحام الذي يتهمونه بأنه حزب قبائل " في الهوى سوا " بهذا الخصوص، وكانوا ينتظرون إلى أن يرشح حزب الاتحاد مرشحا في دائرة انتخابية فيسألون عن غريمه القبلي محليا فيرشحونه، فلو كان موقفهم من القبلية واستخدامها في الترشيحات والانتخابات مبدئيا لما لجؤوا إليها!
من حيث النتائج التي ظهرت حتى الآن في أعقاب الشوط الأول من هذه الانتخابات سنقتصر على الحديث عن نتائج الحزب الحاكم الذي جاء في المقدمة، وحزب " تواصل " الذي قيل إنه جاء في المرتبة الثانية، ونقول إنه في كل سباق لابد من أن يكون هناك من يأتي في المقدمة ومن يأتي ثانيا، لكن العبرة في ذلك تكون في الفارق بين المتسابقين، فمثلا في رئاسيات 2014 جاء المترشح بيرام ولد أعبيدي في المرتبة الثانية بنسبة 8% ولكن بعد الرئيس محمد ولد عبد العزيز بنسبة 83%، وكذلك أيضا من حيث اكتساب أي من الحزبين المعنيين لمناطق جديدة، أو محافظته على مناطق كانت بحوزته، أو خسارته لها ما بين دورتين انتخابيين..
والواضح من خلال نتائج الشوط الأول من هذه الانتخابات أن " جواد " حزب الاتحاد قفز قفزات قويه لامست أحيانا الهلال الذي يعلوه.. رغم كثرة المترشحين التي ساهمت إلى حد كبير في تشتيت الأصوات، فأنفرد بنواب ولايات بأكملها وحاز غالبية نواب البقية، وكان متفوقا على أقرب منافسيه في أغلب المقاطعات التي صعد فيها للشوط الثاني مع منافسيه في النيابيات والبلديات، واستعاد بلديات كبرى ونواب مقاطعات كبرى أيضا كانت بحوزة حزب " تواصل " الذي فاز بها سابقا في ظروف خاصة.. وعلى مستوى المجالس الجهوية حسم 6 مجالس من أصل 13 مجلسا في الشوط الأول، ويتفوق في كافة المجالس التي آلت للشوط الثاني وبافارق كبير بينه وأقرب منافسيه في أغلبها.
بينما خضعت نخلة " تواصل " في هذه الانتخابات لظاهرة " المعاومة " التي هي ظاهرة فزيولوجية يعرفها أهل النخيل يتفاوت فيها إنتاج النخلة من عام إلى عام، فيكون إنتاجها جيدا في أحد المواسم، بينما يكون ضعيفا أو معدوما في الموسم الموالي.. فوجدنا أن هذا الحزب، الذي سنسمع كثيرا خلال السنوات الخمس القادمة بأنه شهد صعودا وأنه حل ثانيا في هذه الانتخابات، وجدنا أنه فقد بلديات ومقاطعات كبرى عديدة على مستوى المجالس البلدية والنواب فاز فيها في انتخابات 2013، بينما خسرها اليوم حتى أنه لم يصعد فيها للشوط الثاني على الأقل.. ووجدنا أيضا أنه فاز بنواب عدة مقاطعات داخل البلاد في انتخابات 2013، بينما لم يفز بنائب واحد في الدوائر الداخلية للبلاد إلا من خلال عامل النسبية الذي وضعه المشرع أصلا من أجل توسيع المشاركة، وهو في القاموس الانتخابي إعطاء من يملك لمن لا يملك، أو بعبارة أخرى هو " زكاة سياسية " من الغني جماهيريا على الفقير جماهيريا.. واللافت أن نتائج حزب " الاتحاد " في هذه الانتخابات التي شهدت مشاركة كافة الطيف السياسي كانت أفضل عموما من نتائجه في انتخابات 2013 التي شهدت مقاطعة جزء كبير من أحزاب المعارضة وغيرها من الأحزاب في الساحة.
وسيكون الرهان خلال الشوط الثاني من هذا الاقتراع على قدرة المتأهلين لهذا الشوط على استغلال ما ادخروه من طاقات عن الشوط الأول، وعلى المتاح أمامهم من إبرام التحالفات كل وحلفاؤه التقليديون، أو ما يستطيع استمالته من ناخبي حلفاء الآخر.. ولأن الشوط الثاني في الغالب سيجري بين الحزب الحاكم وحزب " تواصل " فإننا سنقتصر أيضا على الحديث عن حظوظ هذين الحزبين ونعتقد، حسب المعطيات، أن حظوظ الأول لا يختلف عليها اثنان وذلك للأسباب الموضوعية التالية:
1ـ تفوق حزب الاتحاد في أغلب الدوائر التي صعد فيها للشوط الثاني وبقارق كبير أحيانا من الصعب على منافسه اللحاق به.
2ـ كون الحزبين المتنافسين لم يكونا على نفس المستوى من استغلال طاقاتهما خلال الشوط الأول من الاقتراع، فمثل إي متسابقين يستنفد أحدهما طاقته في المراحل الأولى من السباق، ويدخر الآخر جزءا من طاقته للمراحل الأخيرة منه، فقد استهلك حزب " تواصل " كل طاقته الذاتية في الشوط الأول من خلال تصويت كل ناخبيه بإقبال كثيف وعدم ضياع أصواتهم إلى درجة صفر صوت لاغ غالبا، حيث لا يترك ناخبيه إلا بعد التأكد من قدرتهم على التصويت له وهم مغمضين أعينهم.. بينما تراخى الكثير من ناخبي حزب الاتحاد في الإقبال على التصويت، وكان نصيبه من الأصوات اللاغية هو النصيب الأكبر من بين عشرات آلاف البطاقات اللاغية التي تم تسجيلها وذلك للنقص في التعبئة والتحسيس أو غيابهما أحيانا، وهو تحد ظل يرافق هذا الحزب في كل الاستحقاقات التي خاضها.
3ـ تميزُ هذه الانتخابات بعاملين أحدها غير جديد وشهدته انتخابات 2013 ألا وهو الحضور الكبير للبطاقات اللاغية، التي نعيد ونكرر أن نصيب حزب الاتحاد منها كان الأكبر، بينما كان نصيب حزب " تواصل " ضئيلا جدا، وهو ما عكس التقارب الشديد بل والتساوي أحيانا بين حصيلة الحزبين في نتائج اللائحة الوطنية واللائحة المختلطة ولائحة النساء بنفس النتيجة تقريبا في انتخابات 2013، أما العامل الثاني والجديد في هذه الانتخابات فهو عامل تشتت الأصوات بفعل الكم الكبير من المترشحين، وبالنظر في هذين العاملين فإننا نجد أنهما في صالح حزب " الاتحاد " أكثر من حزب " تواصل "، إذ شكل الشوط الأول غربالا سقط من فتحاته كثير من المترشحين الذين ساهموا بترشحهم في تشتيت أصوات حزب " الاتحاد " وستؤول أصوات ناخبيهم لهذا الحزب ( عودة المغاضبين )، إذ لو كانوا ناخبين من المعارضة لكانوا صوتوا لها في الشوط الأول، كما ستكون شعارات الأحزاب أكثر وضوحا والتعبئة عليها أسهل نتيجة لقلة اللوائح والبطاقات خلال الشوط الثاني، وبذلك ستكون الاستفادة من استعادة الأصوات اللاغية أكبر بالنسبة للحزب الذي كان هو المتضرر منها في الشوط الأول إذا استغل الفرصة وهو حزب " الاتحاد " طبعا.
4ـ قد لا تكون تحالفات أحزاب المعارضة التي وقعها قادتها بتلك الصلابة عندما تنزل للقواعد الشعبية، وستتدخل في ذلك عديد الاعتبارات المحلية، والعوامل السياسية والاجتماعية التي تجعلنا نضع جانبا تلك العمليات الحسابية التي يجريها البعض الآن بناء على نتائج أحزاب المعارضة التي ستخوض شوطا ثانيا مع حزب الاتحاد..