جّر الأمين العام السابق للحزب الحاكم بالجزائر، عمار سعداني، زوبعة كبيرة بتصريحاته المثيرة للجدل التي أطلقها الخميس الماضي، والذي أقرّ فيها بأحقية المغرب بالصحراء الغربية، تصريحاتٌ أشعلت مواقع التواصل وحوّلت نقاشات والاهتمامات الجزائريين من الأزمة السياسية المستمرّة في البلاد، نحو قضيةٍ كانت ولا تزال ملف حساس لدى الدولة الجزائرية والتي لا تزال أفاق حلّها تراوح مكانها منذ أزيد من أربعة عقودٍ.
وبعد أكثر من ثمانية أشهر من الحراك الشعبي الذي فرض على السلطات الجزائرية الاهتمام بالأوضاع الداخلية والصوم عن القضايا الخارجية، تأتي تصريحات سعيداني ومن قبلها التضيقات على السفر التي فرضها الجزائر على قيادات في (جبهة البوليساريو) لتثير مسألة بداية تخلي الجزائر عن قضية الصحراء الغربية من عدمها.
عامًا من الدعم الجزائري لـ«جبهة البوليساريو»
ظلّت قضية الصحراء الغربية؛ الملف الأوّل على طاولة الديبلوماسية الجزائرية منذ سبعينات القرن الماضي، فكانت الجزائر الداعم الأوّل لتأسيس ما يعرف بـ(البوليساريو) أو «الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب» في 10 مايو (أيار) 1973، وتقديم الدعم العسكري لها من أجل طرد المحتل الإسباني عن أراضيها. كما لا بد من الإشارة أيضًا إلى أن قضية الصحراء الغربية مدرجة منذ منتصف ستينات القرن الماضي على لائحة جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، باعتبارها قضية تصفية استعمار يجب أن تجد حلًا.
ومع جلاء الإحتلال الإسباني عن الصحراء الغربية سنة 1974، وقيام الملك المغربي الحسن الثاني بقيادة «المسيرة الخضراء» نحو الصحراء الغربية بعد سنةٍ من ذلك، أعلنت (البوليساريو) من العاصمة الجزائرية 26 فبراير (شباط) 1976؛ قيام الجمهورية الصحراوية الشعبية الديمقراطية، التي ظل مقرها تندوف بجنوب الجزائر، وبداية العمل المسلح ضدّ القوات الملكية المغربية من أجل تحرير الصحراء.
لعبت الجزائر دورًا كبيرًا في تدعيم (جبهة البوليساريو) ماديًا وديبلوماسيًا وعسكريًا، وانتشرت معسكرات تدريب الصحراويين في الجنوب الجزائري إبان السبعينيات، كما ساهمت الجزائر في توقيع موريتانيا على إتقاقٍ مع الجبهة في 5 أغسطس (آب) 1979: تخلت موريتانيا بموجبه عن وادي الذهب في الإقليم الصحراوي الذي كان تحت سيطرتها.
لتستمر بعدها الحرب بين (جبهة البوليساريو) والمغرب قرابة 16 سنة، وطيلة تلك السنوات التي كانت فيها المدافع تصدح، لعبت الدبلوماسية الجزائرية دورًا نشطًا في صفوف دول العالم فجعلت منظمة «الوحدة الأفريقية» تعترف بالحكومة الصحراوية عضوًا فيها، وذلك ما دفع بالمغرب إلى الانسحاب من هذه المنظمة القارية في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) 1982 احتجاجًا على هذا الاعتراف.
كذلك أسهمت الجزائر في جدولة القضية على طاولة الأمم المتحدة التي نجحت في توقيع وقفٍ لإطلاق النار بين المغرب والبوليساريو، من خلال مخطط سلام لتسوية النزاع تم إعداده عام 1990 من طرف منظمتي الأمم المتحدة والوحدة الأفريقية سابقًا، بهدف تنظيم استفتاء بالصحراء الغربية يكون حرًا وعادلًا يختار من خلاله الشعب الصحراوي بين الاستقلال أو البقاء تحت الحكم المغربي.
تمسكت الجزائر برؤيتها للحلّ في الصحراء الغربية وفق هذا المخطط القاضي بوجوب إجراء استفتاءٍ لتقرير المصير، وهو الحل الذي بقيّ يراوح مكانه منذ طرحه بعد أن رفضت المغرب إجراء هذا الإستفتاء بحجّة عدم الاتفاق على من يحق له المشاركة في الاستفتاء، وهو الأمر الذي دفع بالأمم المتحدة لطرح حلّ آخر للقضية وهو المقترح الذي أعدّه جيمس بيكر والقائم على منح الصحراء الغربية حكمًا ذاتيًا واسعًا تحت الإدارة المغربية، وهو الحل الذي رفضته الجزائر.
وعلاوة على الدعم الدبلوماسي الجزائري لجبة البوليساريو؛ تقدم الجزائر سنويًا دعمًا ماليًا وماديًا لقيادة (البوليساريو)، قدرته دوائر محلية جزائرية بالمليارات. تقدمها الجزائر على شكل تحويلاتٍ ومساعداتٍ لـ«صندوق الأمم المتحدة الخاص بالشعب الصحراوي»؛ وفي غياب الأرقام الرسمية عن قيمة المساعدات التي تمنحها الجزائر لجبهة لـ(بوليساريو)، يبقى الدعم المالي المقدم من طرف الجزائر للصحراء الغربية سرًا من أسرار الدولة الجزائرية.
ويقيم في الجزائر غالبية اللاجئين الصحراويين المقدر عددهم بقرابة 200 ألف لاجئ في خمسة مخيمات بولاية تندوف الجزائرية، تقدم الجزائر لهم مساعداتٍ سنوية.
هل بدأت الجزائر في مراجعة مواقفها الدبلوماسية بعد الحراك الشعبي؟
يستمر الجدل في الجزائر، حول التصريحات التي أثارها الأمين العام السابق لحزب «جبهة التحرير الوطني»، عمار سعداني، بعد خوضه في ملفٍ حساسٍ بالنسبة للجزائر، وإقراره بـ«مغربية الصحراء»، ليكون بذلك أول موقف لافت بعد نجاح الحراك الشعبي في إسقاط نظام بوتفليقة قبل ما يزيد عن ستة أشهر من الآن.
وفي حوارٍ له مع «موقع كل شي عن الجزائر» قال عمار سعداني: «أنا في الحقيقة أعتبر من الناحية التاريخية أن الصحراء «مغربية» وليست شيئًا آخر، واقتطعت من المغرب في مؤتمر برلين، وفي رأييّ أن الجزائر التي تدفع أموالًا كثيرة للمنظمة التي تُسمى البوليساريو منذ أكثر من 50 سنة دفعت ثمنًا غاليًا جدًا دون أن تقوم المنظمة بشيء، أو تخرجُ من عنق الزجاجة».
وأضاف «أعتبر أن موضوع الصحراء يجب أن ينتهي، وتفتح الحدود، وتُسوى العلاقات بين الجزائر والمغرب؛ لأن الأموال التي تُدفع لمنظمة (البوليساريو)، والتي يَتجَوّل بها أصحابها في الفنادق الضخمة منذ 50 عامًا، كانت مدن جزائرية، كسوق أهراس والبيض وتمنراست وغيرها، أولى بها. هذا هو موقفي، سواء أغضب البعض أو لم يعجب البعض الآخر».
وتأتي تصريحات سعداني لتثير العديد من الاستفهامات حول طبيعة السياسة الجديدة التي تنوي الجزائر اعتمادها في قضية الصحراء الغربية، خصوصًا وأن عمار سعداني معروف بأنه محسوب على رئيس أركان الجيش الجزائري الفريق أحمد قايد صالح، الذي يعتبر حاليًا «الحاكم الفعلي للبلاد»، في وقتٍ بدأ الفتور يدبّ في العلاقة بين النظام الجزائري وقيادة جبهة (البوليساريو)، والتي كانت آخر مآلاتها سحب السلطات الجزائريين لجوازات سفر بعض قادة البوليساريو والتضييق عليهم.
كما أنّ قضية الصحراء الغربية غابت عن ألسنة المسؤولين الجزائريين منذ استقالة بوتفليقة في أبريل (نيسان) الماضي، وبالأخص في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) الماضي، وهي المناسبة التي كانت تستغلها الجزائر لطرح رؤيتها لحلّ القضية.
وأشارت مصادر مطلعة من ميناء الغزوات في أقصى غرب الجزائر لـ«ساسة بوست» إلى منع السلطات الجزائرية حافلات الصحراويين التي تنقل الطرود بين إسبانيا ومخيمات اللاجئين الصحراويين من مغادرة الميناء ومنعها من التوجه نحو المخيمات في تيندوف.
وفي حديثٍ مع وزير الدفاع الأسبق في حكومة البوليساريو، وقائد لواء احتياطي، محمد لمين البوهالي، أعرب الأخير لـ«ساسة بوست» أنّ العلاقة بين بلاده والجزائر علاقة تاريخية تحكمها المبادئ التي تحملها الجزائر في دعمها للقضايا المصيرية. وأضاف البوهالي بأنّ «الجزائر ستبقى الرافد الأوّل للقضية الصحراوية، وبأن الأخبار التي تفيد بمراجعة الجزائر لسياساتها وعلاقاتها مع الصحراء الغربية؛ شائعات لا أساس لها من الصحة تفرضها المخابرات المغربية من أجل الضغط على الجزائر».
وعن تصريحات سعداني، يرى الصحافي الصحراوي المقيم في إسبانيا، الناجم لحميد، أن «عمار سعداني عبر عن رأيه الشخصي، وتصريحه لا يلزم لا الأفلان، ولا الدولة الجزائرية، وتمّ الرد عليه من طرف لجنة التضامن مع الشعب الصحراوي».
وتجدر الإشارة إلى أنّ تصريحات سعداني الأخير لقيت رفضًا واسعًا بين الجزائريين، وتمّ الرد عليها من طرف لجنة التضامن مع الشعب الصحراوي التي وصفت سعداني بالخائن والعميل.
«اتفاقٌ تحت الطاولة».. هل فضّلت الجزائر أمنها واستقرارها على قضية الصحراء الغربية؟
لا يزال الصمت يطبع الموقف المغربي من الحراك الشعبي الذي تشهده الجزائر، فبالرغم من مرور أكثر من ثمانية أشهر على الحراك الشعبي والذي استطاع أن يجبر بوتفليقة – الذي يتهمه النظام المغربي بإطالة الأزمة بين البلدين – على الاستقالة؛ إلّا أنّ الموقف المغربي الرسمي إزاء ما يحدث في جارته الشرقية بقي حبيس الغرف المغلقة، مكتفيًا بتصريح مقتضب لوزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي، ناصر بوريطة، قال فيه: إن «المملكة قررت اتخاذ موقف بعدم التدخل في التطورات الأخيرة بالجزائر، وعدم إصدار أي تعليق حول الموضوع»، مضيفًا: «ليس للمغرب أن يتدخل في التطورات الداخلية التي تعرفها الجزائر، ولا أن يعلق عليها بأي شكل من الأشكال».
أثار هذا الموقف من النظام المغربي استفهامات كبيرة، فقبل خمس سنوات اتهمت السلطات الجزائرية نظيرتها المغربية بالتورط في الأحداث التي شهدتها مدينة غارداية (600 كلم جنوب الجزائر) عن طريق التخطيط للأحداث التي وقعت في المغرب، كما اتهم الوزير الأوّل الجزائري الأسبق أحمد أويحيى، والطاعن في السن حاليًا، المغرب بإيواء انفصاليين جزائريين على أرضها، وتقديم الدعم للجماعات الانفصالية، في إشارةٍ منه إلى حركة «الماك» الانفصالية.
ويربط بعض المراقبين للشأن المغربي صمت الأخيرة إزاء الحراك الشعبي الجزائري، والسكوت الجزائري، وبداية مراجعة سياساته إزاء الصحراء الغربية بصفقةٍ تعقد في السر بين النظامين. وهو ما ذهب إليه الصحافي المغربي إبراهيم نخلة الذي أشار في حديثه مع «ساسة بوست» إلى الارتياب الذي يشوب موقف المغرب مما يجري في الجزائر، مرجحًا التوافق بين النظامين للحفاظ على الوضع القائم بينهما؛ ويضيف نخلة «النظام الملكي هو الآخر يخشى من أن ينتقل الحراك إليه، لذلك فضل الصمت وعدم التدخل في الشأن الداخلي للجزائر، كما أنّ الجزائر من مصلحتها أن لا تتدخل المغرب في شأنها الداخلي».
ويشير الصحافي المصطفى العسري رئيس «وكالة الأنباء إيه بي يو» المغربية، والمقرب من السلطة، عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» إلى أنّ شيئًا ما يطبخ في الخفاء بين الجزائر والمغرب، خصوصًا بعض تصريحات سعداني الأخيرة