شهد ملف الصحراء منعطفا تاريخيا، باعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على هذه المنطقة، التي تشكل أحد النزاعات الأطول في القارة الافريقية. وبقدر ما يشكل الاعتراف الأمريكي دعما للمغرب، فهو يفتح المنطقة على احتمال توتر حقيقي، وسيصبح عنوانا جديدا للحرب الباردة بين موسكو وواشنطن في انتظار معرفة موقف بكين.
اعترف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمغربية الصحراء يوم 10 ديسمبر 2020، وهذا الإعلان يأتي نتيجة تطورات كثيرة، البعض منها معروف والبعض الآخر غير معروف، وإن كان الكثيرون يربطون بينه وبين تطبيع العلاقات بين الرباط وتل أبيب. وقد طغى هذا الجانب من النقاش وسط المغرب وإسرائيل، وجزء مهم من وسائل الإعلام الدولية، لكن القرار الأمريكي هو خليط من العوامل المتعددة بين الديني والجيوسياسي علاوة على التطبيع.
وعلاقة بالعامل الديني، يعتبر ترامب أحد الرؤساء الأمريكيين الأكثر استحضارا للموقف الديني في سياسته، ومنها العلاقات الدولية. فهذا الرئيس مؤمن بمعتقدات الإنجيليين بضرورة خدمة إسرائيل لتصبح قوة عظمى في الشرق الأوسط والعالم في انتظار قدوم المسيح مجددا. ويغيب عن بال الكثير من المحللين ثقل الدين في السياسة الأمريكية، وأحيانا يعجزون عن فك مشاهد يتفاجأون بها مثل، قول ترامب وأنصاره إنه رئيس بعثه الله إلى الولايات المتحدة، ثم حضور رجال دين يتبركون بترامب في البيت الأبيض، ثم إصراره على حمل الإنجيل في كل لقاءاته، ومنها مثلا زيارته إلى كنيسة بالقرب من البيت الأبيض، خلال مايو إبان الاضطرابات التي تلت مقتل جورج فلويد، حيث حمل المصحف وأخذ صورة في خطاب إلى معارضيه بوقوف الله إلى جانبه. ونستحضر تصريحات الرئيس جورج بوش الابن عندما قال، إنه تلقى وحيا حول الدولة الفلسطينية (وسبق أن عالجت في جريدة «القدس العربي» بتاريخ 14 ديسمبر 2017 دور الدين في مقال بعنوان «الأسباب الدينية وراء قرار ترامب بشأن القدس»).
ولهذا، كان ترامب هو الرئيس الذي قدم خدمات لإسرائيل، رغم أن الإنجيليين لا يحبون اليهود، ولكنهم يعتبرون دفاعهم عن إسرائيل شرطا من شروط عودة المسيح. وفي هذا الإطار يدخل نقل السفارة ومصالحة إسرائيل مع المسلمين، أي الدفاع عن التطبيع. وعليه جزء من مسلسل التطبيع، الذي يدافع عنه ترامب بين إسرائيل والعرب يدخل في هذا الإطار، ويعرب ترامب عن استعداده لفعل أي شيء من أجل إسرائيل. وعلاقة بالعامل الجيوسياسي، قام المغرب خلال السنتين الأخيرتين بالتوقيع على اتفاق ضمن تلك الاتفاقات، التي لديها تأثير ممتد يتخطى المنطقة المعنية إلى العلاقات الدولية، أو الصراع الدولي بالتدقيق. ويتعلق الأمر بالتوقيع على أنبوب الغاز من نيجيريا مرورا بافريقيا الغربية وموريتانيا والمغرب ثم لاحقا أوروبا. وتحلم نيجيريا منذ مدة بتصدير الغاز عبر أنبوب إلى أوروبا، وكان هناك مشروع أنبوب يعود إلى ثلاثة عقود مع الجزائر، لكنه لم يحقق تقدما، بسبب عدم رغبة الجزائر في إنجاز الأنبوب حفاظا على حصتها من الغاز نحو أوروبا، وعدم إغضاب روسيا التي تستعمل الغاز ورقة للضغط على أوروبا. ويحاول البيت الأبيض منذ قرابة عقدين تحرير أوروبا من الاعتماد الكلي على الغاز الروسي، وعارض في مناسبات كثيرة، ومنها خلال الشهور الأخيرة الأنبوب الذي يمر من روسيا عبر تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ولهذا، فقرار الأنبوب الممتد من نيجيريا عبر المغرب نحو أوروبا، يقلق روسيا كثيرا، وعليه، لا يمكن استبعاد الدور الروسي ضمن أسباب أخرى في عودة جبهة البوليساريو إلى الحرب ضد المغرب، ومن الأسباب الأخرى خوف البوليساريو من مرور الزمن، وبالتالي اندثار القضية. وكنت قد نشرت في جريدة «القدس العربي» يوم 25 إبريل 2018 مقالا بعنوان «موسكو تعارض قرار واشنطن حول الصحراء، وتساؤل حول ترخيصها للجزائر لمد البوليساريو بأسلحة متطورة» ويبدو أنه استباق من موسكو للأنبوب الذي كان المغرب يفكر في طرحه على نيجيريا. ولا يمكن استبعاد عودة البوليساريو إلى الحرب، برصد موسكو القرار الأمريكي الاعتراف بمغربية الصحراء، الذي بحثه الرئيس ترامب منذ سنة ونصف السنة. وهناك الكثير من المعلومات عن تجسس موسكو على البيت الأبيض.
استمرار الموقف الأمريكي في الاعتراف بمغربية الصحراء رهين بالاستجابة الديمقراطية من طرف المغرب نفسه
اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء في المقام الأول هو مساعدة شريك تاريخي على الاستقرار، ثم مساعدة هذا الشريك على بسط نفوذه وسيادته على منطقة استراتيجية. وهنا، لا يمكن أن يقدم الرئيس ترامب على القرار بدون استشارة مع البنتاغون، أو بتوصية من الأخير. إذ يعتبر المغرب من ضمن الدول القليلة في العالم، التي يساهم البنتاغون في إبداء رأيه في نوعية العلاقات معها. وتاريخيا، يحتل المغرب مكانة مهمة لدى الغرب، بسبب موقعه الجغرافي، ويحرص الغرب على استقرار المغرب، حتى لا يتغير النظام ويأتي نظام آخر قد يميل إلى دول كبرى غير غربية، الاتحاد السوفييتي سابقا، والآن روسيا والصين ويمنح هذه الدول قاعدة على المحيط الأطلسي، أو في مضيق جبل طارق. وتعمل الصين جاهدة للتوفر على قاعدة أطلسية أو متوسطية لحماية نفوذها، لاسيما وأنها مرشحة لتكون القوة الكبرى في العالم ابتداء من نهاية الثلاثينيات. وعلاوة على العامل الديني، اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء يدخل ضمن الرؤية البعيدة المدى، بعدما تبين لها استحالة إقامة ظهور دولة جديدة في الصحراء لن تكون إلا في فلك روسيا والصين، بسبب احتضانها من طرف الجزائر. وعلاوة على الاعتراف، تعمل واشنطن مؤخرا على الرفع من مبيعات أسلحة نوعية للمغرب، لكي يحدث توازن عسكري مع الجزائر، هذه الأخيرة التي توصلت بأسلحة نوعية، تشكل تحديا لدول مثل فرنسا وإيطاليا وهي الغواصات وصواريخ منها إسكندر ومنظومة الدفاع الجوي إس 400.
في غضون ذلك، يبقى التساؤل: هل سيراجع الرئيس الأمريكي المقبل جو بايدن اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء؟ من جهة، بايدن سيعيد النظر في عدد من قرارات ترامب وسيلغيها، ومن جهة أخرى، تضم إدارته عددا من أنصار جبهة البوليساريو مثل، سوزان رايس مستشارة الأمن القومي السابقة، وجون كيري وزير الخارجية الأسبق، وكلاهما من عهد باراك أوباما.
المرجح بل الأكيد هو عدم إلغاء بايدن لقرار ترامب حول الصحراء، لأنه قرار كان سيقدم عليه الرئيس بيل كلينتون نهاية التسعينيات، عندما كانت روسيا في وضع ضعيف إبان عهد بوريس يلتسين، ولا تعارض القرارات الأمريكية. ولكنه تأخر لكي يعطي فرصة للوسيط الأمريكي وقتها جيمس بيكر الذي طرح مقترح الحكم الذاتي في صيغة أولى، ثم في صيغة ثانية رفقة الاستفتاء. ويبدو أن ترامب قد ساهم مع البنتاغون في اتخاذ قرار كان البعض يرغب فيه، ولكنه لا يجرؤ على اتخاذه، لكن الإدارة الجديدة ستطلب من المغرب بدء دمقرطة حقيقية في البلاد انطلاقا من احترام حقيقي لحقوق الإنسان، وانفراج حقوقي، وانتهاء بإرساء حكم ذاتي حقيقي في الصحراء، ثم في باقي مناطق المغرب، وإن كان بمستوى أقل. استمرار الموقف الأمريكي في الاعتراف بمغربية الصحراء رهين بالاستجابة الديمقراطية من طرف المغرب نفسه.
«القدس العربي»