كنّا صغاراً حين قرأنا في كتبنا المدرسية أن امرأة استنجدت بالخليفة المُعتصم من ظلم الروم صارخة وامعتصماه. فما كان من المُعتصم إلا أن أرسل رسالة إلى ملك الروم قال له فيها، سآتيك بجيش أوله عندك وآخره عندي. فصدق الخليفة وانتصر للمرأة وحررها من الظلم الذي وقع عليها. آنذاك لم تكن هنالك وسائل اتصال حديثة ولا قنوات فضائية، تنقل أخبار الناس والأحداث الدولية، لكن كان هناك ضمير يسمع ويرى من خلاله الحاكم ما يجري على رعيته.. لم تكن هنالك حُجب تمنع التواصل بين الحاكم والمحكوم، ولا سيارات مصفحة تحجب صرخات المستغيثين والمظلومين عن مسامع المسؤول، حين يمر في شارع أو طريق. كما لم تكن جدران البلاط الحكومي سمكها ثلاثة أمتار، ولا حمايات تمنع وصول الناس إليه.
أما اليوم وعلى الرغم من كل الوسائل التي باتت بين يدي الحاكم، والتي يرى ويسمع من خلالها كل شاردة وواردة، فإنه لا يستجيب لاستغاثة مظلوم ولا ينتصر لمحتاج، لأن الضمير لم يعد حياً. وهذه هي الإشكالية الكبرى التي قطعت التواصل بين الما فوق والأدنى، خصوصا في عالمنا العربي. وعليه لم تعد طوابير مئات الجثث المرصوفة في أروقة مستشفيات غزة المدمرة تثير نخوة حاكم، ولا حتى توخز غريزة الإنسانية لديه كي يتحرك، كما لم تعد صرخات نساء غزة «حسبنا الله على حكام العرب» تجعل جبينه يتصبب عرقا من الخجل، أو تستفزه لتغيير الواقع بيده أو بلسانه أو حتى بقلبه وذلك أضعف الإيمان.
ما زال النظام الرسمي العربي، عاجزا عن مواكبة التغيير ومتعلقا بأذيال العدالة الدولية المعطوبة، والفكرة الرثة القائمة على أن أوراق حل القضية الفلسطينية بيد أمريكا
وهنا لا بد من التذكير بموقفين غريبين لدولتين عربيتين في هذا الظرف الحالي، فزعيم أكبر دولة عربية قال يوما، إن أمن دول الخليج العربي جزء من أمن دولته، وإنه إذا ما تعرضت إحداها إلى اعتداء، فإن قواته المسلحة جاهزة ولن تأخذ وقتا في الوصول إليها، فقط مسافة السكة. إذن لماذا لا يتحرك بأقصى الطاقات إنسانيا فقط وليس عسكريا لنجدة غزة، التي لا تحتاج إلى قطع مسافة السكة لأنها على حدود دولته؟ ودولة عربية أخرى بالوزن السياسي مضافا إليه وزن اقتصادي، لا يشعر رئيسها بأن الدماء التي تجري في غزة هي دماء أهله وأطفاله ونسائه وشيوخه؟ إن مفهوم إدراك المصالح العربية يعاني من خلل بنيوي عميق، لذلك نجد كل هذه التناقضات في الواقع العربي، وفي تحقيق السياسات العربية الفردية والجماعية. فما زال النظام الرسمي العربي يفهم ما يجب فعله بشكل مجزأ وليس بشكل موحد. لذلك نجد بعضهم يتخذ من إسرائيل حليفا، وبعضهم يرفض ذلك. ونجد آخرين يرون في إيران حليفا وغيرهم يرفض. كما أنهم لحد اليوم لم يحددوا هل هم هدف لتأثير خارجي، أم أنهم دول قادرة على تحقيق مصيرها بيدها، كل منهم على حدة أو كجماعه على مستوى المنطقة والعالم، بل الأنكى من ذلك كله هو أن رسم سياساتهم دائما ما يكون معتمدا على عناصر خارجية ليست بأيديهم، في حين أن من يريد نجاح سياساته عليه أن يضمن أن عوامل النجاح في يديه وليس في يد الآخرين. لذلك وقع بعضهم في خطأ قاتل حين اختار التوافق مع رغبة القوى الكبرى في تصفية القضية الفلسطينية، لكسب رضى هذه القوى والانفتاح على إسرائيل، وبذلك تم ترك أهلنا في فلسطين وحيدين في الميدان يقاتلون من أجل الحرية والكرامة والاستقلال. في حين أن دولا كثيرة بعيدة عن المنطقة تحركت من أجل نصرة الحق الفلسطيني، شرعت بقطع علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع المحتل الإسرائيلي وطردت سفراءه من أراضيها، بينما لم نسمع قيام دول التطبيع والمصالحة بفعل ذلك، حتى البحرين والأردن لم يعلنا عن طرد السفير الإسرائيلي، بل قالوا إنه غادر من تلقاء نفسه. لقد شهد قطاع غزة الباسل حروبا كثيرة، لكن ما يحصل اليوم هو الأسوأ على الإطلاق، وهذا يُثبّت عاراً كبيراً على كل من يقف على الحياد، لأن الأمر اليوم يتعلق بانتشار جثث الأطفال بشكل مروّع في كل مكان، ما يرتب على الجميع وأولهم العرب مسؤولية كبيرة تجاه هؤلاء الناس الأبرياء. فهناك عنجهية إسرائيلية تظن أنها قادرة على أن تفعل ما تريد، وأن مليونين ونصف المليون فلسطيني في غزة سوف يبقون راضين بالعيش في أكبر سجن مفتوح في العالم، وهي لن تدفع أية فاتورة عن هذا الإجرام. نعم إنهم فعلا يعتقدون أنهم قادرون على فعل ذلك.. قادرون على وضع الناس في أقفاص إلى ما لا نهاية، لأن الأمر يخدم مصالحهم. في حين كان يفترض أن يكون السابع من أكتوبر لحظة يقظة لإسرائيل وللعالم كذلك، فأيا ما تكون قوة الجيش الإسرائيلي، لا يمكن لإسرائيل أن تبقى تحكم بموجب هذه القوة وحسب، كان عليهم أن يدركوا جيدا أن القوة العسكرية ليست الترياق أو الضمانة لكل شيء، هي تستطيع أن تضع الجدران العازلة الاكثر تطورا، وأن يخفوا غزة عن الأنظار خلف هذه الجدران، لكن عنجهيتهم رانت على عقولهم وأعمت أبصارهم، فظنوا أن لا يوم سوف يأتي فتخترق المقاومة الفلسطينية هذه الجدران وتنتقم وتثأر، وتذيقهم ما ذاقه أهلنا على مدى عقود. هذا هو الدرس الذي لقنتهم إياه المقاومة الفلسطينية الباسلة.
أما المعادلة الاخرى التي صنعتها المقاومة اليوم، فهي شرط الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، مقابل أسراهم من الجنود والضباط الصهاينة، وينبغي أن لا يكون لإسرائيل توقع بأن عناصر جيشهم سيتم الإفراج عنهم من قبل المقاومة من دون مقابل، فهذا بعيد جدا، يجب الإفراج عن كل الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وعليهم أن يتذكروا من هم أسرانا الموجودون في سجونهم، فبعضهم يقبعون لعقود من السنين، من دون توجيه أية تهمة لهم. آخرون سُجنوا وما زالوا من دون أية محاكمة لسنوات طويلة. هنالك سجناء مرضى. وهنالك سجناء رأي. إذن في حال أرادت إسرائيل استعادة أسراها فعليها أن تعمد إلى إطلاق سراح كل السجناء الفلسطينيين، فالاسرائيليون لم يفهموا يوما الدور المحوري للسجين الفلسطيني في حياة الشعب القابع تحت الاحتلال.. إنه ثروة أساسية للغاية. لقد وفت المقاومة الفلسطينية بعهدها مع الأمة في السابع من أكتوبر، فمرغت كبرياء الاحتلال بالوحل، وكسرت هيبة جيشه وأجهزته الاستخباراتية والأمنية، وزرعت الاضطراب والتخبط في منظومته السياسية. في حين ما زال النظام الرسمي العربي، عاجزا عن مواكبة التغيير الاستراتيجي الذي صنعته المقاومة، وحريصا على مراهناته القديمة، ومتعلقا بأذيال العدالة الدولية المعطوبة، والفكرة الرثة القائمة على أن أوراق حل القضية الفلسطينية بيد الولايات المتحدة. لذلك ومع كل هذه الدماء البريئة التي تجري في فلسطين اليوم، يعجز عن عقد مؤتمر قمة طارئ، إلا بعد أكثر من شهر من العدوان الإسرائيلي. لكن هل يمكن تبرئة الأمة التي عجزت عن إنجاب معتصم آخر وثان وثالث، وبقيت صامته أمام هذه الطبقة السياسية العربية.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية