الاتصالات بين إسرائيل وحماس والوسطاء في مصر وقطر ما زالت مستمرة في قنوات موازية: في القناة الأولى، السرية، ثمة شخصيات رفيعة من الاستخبارات الإسرائيلية في قطر ومصر تناقش بشكل مفصل ويومي شروط إعادة المخطوفين. في الوقت نفسه، تبين وسائل الإعلام مفاوضات علنية مليئة ببالونات الاختبار واستعراض العضلات اللفظي وترتكز إلى منشورات دقتها محل خلاف.
في الأيام الأخيرة، أصدرت مصر اقتراحات على وسائل الإعلام لاستمرار المفاوضات: نشرت الصيغة الأكثر تفصيلاً في صحيفة “الأخبار” اللبنانية، التي بحسبها ستبدأ عملية تتكون من ثلاث مراحل: في البداية وقف إطلاق النار الذي سيستمر 7 – 10 أيام مقابل إطلاق سراح حوالي 40 من المخطوفين المدنيين. في المرحلة الثانية سيطلق سراح مجندات إسرائيليات ويتم تبادل جثث بين الطرفين، ووقف مطلق لإطلاق النار وستكون قوات الجيش الإسرائيلي خارج التجمعات السكانية. في المرحلة الثالثة التي يتوقع استمرارها شهراً تقريباً ستتم إعادة جميع المخطوفين مقابل إطلاق سراح آخر لسجناء فلسطينيين، وتنشر إسرائيل قواتها خارج القطاع. إلى جانب ذلك، ستبدأ مصر وقطر والولايات المتحدة بنقاشات حول تشكيل حكومة تكنوقراط فلسطينية مؤقتة، تكون مسؤولة عن إدارة الضفة والقطاع بضمانة من قطر ومصر وأمريكا.
حماس و”الجهاد الإسلامي” رفضتا هذا الاقتراح وقالتا إنهما لن تدخلا المفاوضات إلا بوقف شامل لإطلاق النار. أمس، نشرت وكالة “رويترز” عن مصادر مصرية أن مصر وقطر اقترحتا على قيادة حماس و”الجهاد الإسلامي” في غزة التنازل عن الحكم في القطاع مقابل وقف دائم لإطلاق النار، وأن مصر وقطر ستضمنان سلامة زعماء حماس الذين سيغادرون القطاع. من غير الواضح إذا كان هذا الاقتراح مشمولاً بسابقه أو أضيف إليه. وعلى أي حال، التنظيمات رفضت هذا الاقتراح أيضاً؛ فقد تمسكت بالموقف الذي يقول إن أي مفاوضات ستكون من الآن فصاعداً مشروطة بوقف كامل لإطلاق النار وإطلاق سراح جميع السجناء مقابل إطلاق سراح جميع المخطوفين – دون التنازل عن حكم حماس في غزة.
رد إسرائيل العلني، كما عبر عن ذلك أمس رئيس الحكومة، رد قاطع بنفس الدرجة. ستواصل إسرائيل استخدام قوتها في القطاع بهدف تدمير سلطة حماس، على افتراض أن الضغط العسكري وحده سيطلق سراح المخطوفين. في الوقت نفسه، تعتبر إسرائيل استمرار القتال تعبيراً عن التزامها بتصفية حكم حماس في القطاع وتدمير بنيتها التحتية العسكرية.
لكن سلطة حماس المدنية في القطاع لم تعد قائمة فعلياً؛ فمؤسسات الحكم المدني لا تعمل، وسكان القطاع مسجونون في مناطق تسمى “مناطق آمنة” وليسوا آمنين تماماً، ولا يمكن لحماس حمايتهم. وحسب أقوال قادة كبار، من بينهم رئيس الأركان، انتقل الجيش الإسرائيلي إلى مرحلة طويلة ومنهكة للتطهير الفردي التي يتوقع استمرارها أشهراً كثيرة.
لا يوجد تعريف واضح أو معايير متفق عليها لمسألة ما الذي يعتبر تدميراً لحماس من ناحية عسكرية، ولكن عندما تقول إسرائيل إن الضغط العسكري والقصف الشديد، إلى جانب تقييد حجم المساعدات الإنسانية، هي الطريقة الوحيدة التي ستجبر حماس على الموافقة على صفقة أخرى للتبادل، فلا مناص من القول إن “الحرب أصبحت وسيلة ضغط سياسية لنثبت أننا مضطرون لاستخدام القوة لصالح المخطوفين، وأنها لم تعد تستهدف تدمير قدرة لحماس العسكرية فقط”.
ردود إسرائيل وحماس العلنية تدل على أن الطرفين وجدا نفسيهما عالقين في مستنقع، يظهر فيه استمرار القتال كهدف مستقل. قناة “الجزيرة” نشرت أمس رسالة جاء فيها أن يحيى السنوار أرسلها كما يبدو لقيادة حماس الخارج، وصف فيها إنجازات الحرب بما في ذلك قتل 1600 جندي إسرائيلي وتدمير دبابات “مركباة” والسيطرة على الجيش الإسرائيلي. لكن القناة حذفت هذه الرسالة من موقعها خلال فترة قصيرة.
لو كان هذا النشر كاذباً فالسنوار يدير حواراً مزدوجاً؛ الأول مع قيادة حماس الخارج، التي يشك بأنها تحاول العمل من وراء ظهره وتخطط “لليوم التالي” مع جهات رفيعة في حركة فتح بدون إشراكه. والثاني أمام إسرائيل التي يستخدم أمامها استمرار القتال كاستعراض للقدرة، الذي يرغب بواسطته في إملاء شروطه. هل تتضمن خطة مصر بنداً يهدد السنوار فيما يتعلق بحكومة تكنوقراط فلسطينية ستنتزع السيطرة في غزة من حماس؟ هذه ليست فكرة جديدة. فحكومات تكنوقراط عملت في السلطة الفلسطينية برئاسة رامي الحمد الله في 2013 وحكومة التوافق الوطني بين فتح وحماس في 2014.
هذه المحاولة فشلت. صراعات القوة والتآمر على مكانة الزعيم والخلاف على المناصب، حولت هذه الحكومة إلى ساحة معارك سياسية وحكومة مشلولة. حكومة التكنوقراط ربما تولد انطباعاً بأن الأمر يتعلق بجسم غير سياسي، لكن الحقيقة بعيدة عن ذلك. ثمة اقتراح مشابه طرحته مصر في تموز على ممثلي فتح وحماس في لقاء العلمين، مع محمود عباس وإسماعيل هنية. يبدو أن مصر تحاول الآن إحياء هذه الفكرة التي تم الاحتفاظ بها كحل لإدارة غزة بعد الحرب. ولكن الحرب غيرت بالفعل مضمون الحوار بين حماس وفتح، ويتحدث الطرفان عن إمكانية للمصالحة وتشكيل حكومة وحدة بدون توضيح تشكيلتها وبنيتها. هذه هي الفكرة التي تهدد السنوار رغم أنه على ثقة بأن إسرائيل لن تسمح بتحقيق هذه الفكرة بالتحقق.
القوة الخانقة للأنشوطة السياسية التي يمليها استمرار القتال بين حماس وإسرائيل؛ في الطرف الإسرائيلي تم التعبير عن ذلك باستخدام قسري يتبعه نتنياهو بتأييد جزء من عائلات المخطوفين، وحتى باقتباسات من جنود في الميدان “طلبوا منه استمرار القتال بأي ثمن”. وكأنه كان سيفحص إمكانية وقف إطلاق النار لولا هذا “الطلب”. استخدام نتنياهو لهذا المبرر يظهر على الأكثر كبديل لفظي يحاول تجاوز الخوف من شركائه المتطرفين في الحكومة، الذين يهددون بإسقاطها إذا وافق على وقف إطلاق النار.
حماس، وللدقة السنوار، عالقة في الفخ نفسه؛ إذ عليها المحاربة لإظهار بقائها ووقف أي خطة لقيادة حماس الخارج لفحص بدائل تخرجها من اللعبة. أفضلية السنوار أنه، خلافاً لنتنياهو، لا يواجه ضغطاً داخلياً من الغزيين، وآلاف المتظاهرين لا يتظاهرون في الشوارع ويطلبون عزله. من اعتقد بأن الضغط العسكري والأزمة الخطيرة التي تفرضها إسرائيل على غزة ستحدث العصيان المدني ضد السنوار، فعليه أن يتسلح بطول النفس أو بخيال موجه.
تسفي برئيل
هآرتس 26/12/2023