يبدو أن التاريخ سيعيد نفسه مرة أخرى، إذ أعادت احتجاجات طلاب أمريكا سيناريو حرب فيتنام، التي ساهمت مظاهرات الطلبة في إنهائها خلال السبعينيات، عندما تفاجأت واشنطن آنذاك بهذا الزخم الطلابي غير المتوقع تماما..
الأجيال الجديدة لم تعش ذلك الحدث الكبير، الذي هز البيت الأبيض بشكل عنيف، ليس لخوفها من طلبة جامعاتها، بل لاحترامها الشديد لنخبتها المثقفة، التي سوف تتولى الحكم بعد 20 أو 30 سنة، وهو ما حدث فعلا، حين أصبح يبل كلينتون (أحد أبرز المشاركين في احتجاجات حرب فيتنام) رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية لعهدتين كاملتين في التسعينيات..
هل هناك طالب عربي واحد يحلم حاليا بأن يصبح يوما ما رئيسا لبلاده؟
يتكرر نفس المشهد اليوم تقريبا، مع بعض التباينات، التي لا مجال للخوض فيها هنا، خوفا من الاستطراد والخروج عن جوهر الموضوع..
طلاب أمريكا صنعوا الحدث: سياسيا وإعلاميا، محليا وعالميا، فحق لهم أن يدخلوا التاريخ من بابه الواسع، ليس بسبب نتائجهم الدراسية أو أبحاثهم العلمية، بل لأنهم تفوقوا كثيرا على حكامهم الغربيين، بل حتى على بعض حكّامٍ عرب، اختاروا (طوعا أو كرها) طريق الذل والانبطاح، وسيلة للبقاء في السلطة، خوفا من غرب مسيطر، حاليا ومؤقتا، على مسرح الأحداث العالمي..
هؤلاء الطلبة الأمريكيون أكثر شجاعة من هؤلاء الحكام العرب، ليس فقط لأنهم جعلوا فلسطين فعلا قضيّتهم المركزية، بل لأنهم غامروا بمستقبلهم الأكاديمي في سبيل نصرة قضية عادلة..
لم يصدعوا رؤوس السامعين بكلمات جوفاء، على غرار الخطاب السياسي العلني المنافق لبعض الحكام العرب، بل أقدموا في شجاعة نادرة على مواجهة مباشرة ضد رعاة الكيان الصهيوني اللعين، يتقدمهم طبعا كبيرهم الخرف بايدن..
لقد تحولت جامعات أمريكية إلى ساحة حرب إعلامية حقيقية، نقلت بالصوت والصورة سقوط هيبة أعظم دولة في العالم، بل انهيارها الأخلاقي التام، فقط من أجل عيون تل أبيب..
إنها مفارقة غربية غريبة:
عرب غرباء وغربيون مستعربون: تبادل رائع للأدوار..
هناك فرق كبير جدا بين طلبة أحرار في جامعات أمريكية حيوية حرة وطلبة محاصرين في جامعات عربية ميتة توعويا وإعلاميا وأكاديميا..
جامعاتهم أنتجت مثل هؤلاء الطلبة، فاهتز عرش الطغيان العالمي في واشنطن، حتى وصلت هسنيريا شرطة نيويورك حضيض القمع العربي المعروف لكل معارضة جادة حقيقية..
سيشكل تمرد الطلبة فرصة ذهبية للجامعيين العنصريين الغربيين لطردهم تدريجيا ونهائيا، سعيا لحرمان العرب ( حتى عن حملوا جنسية أمريكية او غربية) من علم نافع متطور ووعي ثاقب مستنير..
فضح طلاب أمريكا بشجاعتهم وصلابتهم وصمودهم نفاق حكام أمريكا قائدة فيلق الغرب الرأسمالي العنصري الاستكباري، ثم زاد قمع الشرطة (في فضها الغبي لاعتصامات سلمية طلابية) من تساقط أوراق التوت عن العم سام (سم في دسم)، إذ بات صعبا جدا استعادة هيبة أمريكا عالميا، كبلد للحريات والديمقراطية والتفتح، بعد انحياز أعمى لكل ما هو يهودي صهيوني، ضد كلما هو عربي مسلم..
أن آخر ما كان يتوقعه كبار خبراء مخابر المخابرات المركزية الأمريكية CIA أن يأتي يوم يتحدى فيه طلبة أمريكا عنف قوات الشرطة، مجاهرين بتأييد فلسطين..
إنها لحظة فارقة في تاريخ السياسة والجامعات، ستصبح حتما مرجعا مهما جدا لبقية الأجيال، بعد أن تفوق طلبة على حكام غربيين وعرب، ماتت الإنسانية في قلوبهم، بل تجمدت عقولهم وأفكارهم، حتى عجزوا تماما عن إنتاج مسرحيات جديدة ومقنعة، تستر همجيتهم الدموية ورغبتهم الدفينة في محو شعوب بأكملها عن خارطة الوجود، كما فعلوا مع الهنود الحمر، محاولين عبثا تكرار ذلك مع شعب الجبارين في أرض فلسطين المقدسة الصامدة المجاهدة الشهيدة..
يجب على بعض الحكام العرب أن يتتلمذوا من جديد على أيدي هؤلاء الطلبة الأمريكان العظماء..
لكنهم لم ولا ولن يفعلوا ذلك أبدا، ليس لكبريائهم فقط، بل لأنهم يعملون سرّا على التّمكين للمشروع الصهيوني، مع رفع شعارات دعم غزة وفلسطين، همهم الوحيد حاليا ليس تحرير فلسطين، بل تصفية القضية نهائيا، من أجل أن يرتموا علنا في الحضن الصهيوني، تتويجا له قائدا للمنطقة، تماما مثلما فعل أجدادهم ملوك الطوائف في الأندلس.
كاتب جزائري