صحفي : معتقل الجدران!!

أربعاء, 03/12/2025 - 16:04

​كان المجتمع مِرْآة عاكسة لي، وفجأة آنَسَتْ قَبَساً منه وميضًا من شدة طموحي، فأحرقتْ عيوني.

​كم كنتُ متصعلكاً في الصحافة، سيفي قلمي ونبراسي، وتأبّطْتُ أوراقي وكاميراتي، وذهبتُ إلى الشارع الأخير أُلَمْلِمُ أتراحَ الناس وأفراحَهم. اقتحم المسيرات وأجول وغى المظاهرات. فما كسبتُ من ذلك مسكناً فخماً، ولم يغرني عرضٌ بثمن الحقيقة، وزهدتُ عن الانغماس في دنيا الملهيات. ثم أعود في المساء الأخير إلى كوخي، وأُسدِلُ على جدرانه صوراً ومشاهد الفقراء فَتَحَطَّمَتْ صَحَائِفُ كُوخِي وابتَلَّتْ صَحَفِي. والآن دَخَلَتْ عاصفة، ففتكت بالكوخ، وتكسرت مِرْآة المجتمع الذي كنت أراه ولم أعد أعرفه أو يعرفني، وارتطمت الحقيقة أمامي، فكذلك تكسرت أحلامي، وحكمت عليّ الأقدار بـالحبس الإجباري داخل منزل الإهمال، رهين الجدران، ليكون مصيري درساً قاسياً لكل قلم ناقد، لكن وميض عزيمتي هو الذي يشع لي الأقدار. والآن أُدرك أن السجن ليس بالجدران، بل بالرؤية المنغلقة. لقد أحرقتْ شعلة الحقيقة عيوني لأرى بقلبي. إنني لستُ أسيراً للمنزل، ولست لوحة معلقة على جدرانه، بل أميرُ مملكةِ الطموح، وقلمُ كاتبٍ نابضٌ بهمومِ المجتمع، حيث لا ينكسر قلمُ كاتبٍ لا يتنازل عن شعبه. مأساتي ليست ضياعي، بل أزمة مجتمع قد لا يجد من يتحدث عنه بصدق كما كنتُ أتحدث. من يا تُرى منهم يتساءل عني؟ فلا أحد الآن يسأل عني أو يتذكرني، ولكني أجد الآن هدىً التمسُهُ بتجاربي من ذلك الشعب؛ فمن كسري لأعواد شجرة الزمن وتذوقي طعمها، صار ذلك هو هداي الذي شفعت لي به رحماتي التي كنت أكتبها لهم؛ ولهذا، فأنا في وحدتي الآن أعيش على ذلك الهدى. كتاباتي هي صدى وحدتي التي تؤنسني كـصحافي معتقل الجدران، لأن قلمي كان السلطةَ الرابعةَ التي تهزُّ الأركان ويصدحُ بالحقِ، وهو لواء الأمة الذي حملتُه بكلمتي الصادقة والجريئة، وأفخر بذلك. لكن عندما يسقطُ هذا القلمُ الذي ينقلُ آلامَ الناس، فمن يا تُرى يتلقّفُه ليحملَ عن الشعبِ همَّهُ؟ وهل يليقُ بنا في كل مرة أن نتركَ فارساً يتعثرُ، ليصبحَ مصيرُ حاملِ اللواءِ طيَّ الكتمان؟ كنتُ أملكُ على منصّاتِ التواصلِ الافتراضي أكثر من 5000 صديق، ولكن سرعان ما اكتشفتُ أنَّ الأصدقاءَ في الشدائدِ قلائل، وأنَّ كثرةَ الأرقامِ لا تعني صدقَ الولاءِ، وعند الأزماتِ يتفرَّقُون. ومن يمدُّ يدَهُ لِيُسْنِدَ هذا الفارِسَ؟! ومن سيعيد إليه أملَ العودةِ إلى ميدان المشهد العام؟ لأنه يرفض أن يكون رهين الاحتياجات الخاصة، فكما علمته التجربة: لا صديق للمريض، ولا رحمة أو مكاناً للضعيف. وأخيراً، فهذا الصحافي، ولأنه قوي ويحب الحياة، لن يستسلم مهما كانت أداة كتابته، ولو كان بالشفتين أو كانت بإيماءاته أو كانت بمجرد إشارة، ولن يرضخ للإخفاء القسري، بل سيبقى دائماً خارج السرب، رافضاً لكل استبداد وفساد، وكبرياؤه دائماً سيبقى شامخاً ولو بقي رهين المحبسين داخل منزله (صحافي: معتقل الجدران!!).

​التوقيع: يحياوي محمد الأمين ولد يحيى

رقم الهاتف: 36781212

البريد