الجنرالات وصناعة الرؤساء/ محمد يحظيه ابريد الليل

خميس, 18/12/2025 - 11:06

في موريتانيا، لم يكن الطريق إلى القصر الرئاسي يمرّ دائمًا عبر صناديق الاقتراع، بل كثيرًا ما عبر ممرات الثكنات، وغرف الخرائط، ومكاتب الأركان. هنا، لا يُصنع الرئيس فقط في الحملات الانتخابية، بل يُهيَّأ قبل ذلك في توازنات الجيش، وفي حسابات الجنرالات الذين يعرفون متى يتقدّمون ومتى يتوارون.
منذ أول انقلاب عسكري سنة 1978، دخلت البلاد مرحلة جديدة: لم يعد الجيش أداة بيد الدولة، بل صار هو الدولة حينًا، وحارسها حينًا آخر. ومع مرور السنوات، تطورت “الصناعة”: لم يعد الجنرال يحتاج أن يصبح رئيسًا بنفسه، بل يكفي أن يصنع رئيسًا على مقاسه.
من الانقلاب إلى الاختيار
في البدايات، كان الجنرال يقتحم القصر، يقرأ البيان رقم واحد، ويجلس على الكرسي. لكن التجربة علّمت المؤسسة العسكرية أن الحكم المباشر مكلف: داخليًا وخارجيًا. فبدأت مرحلة أكثر دهاءً: مرحلة الرئيس المدني – العسكري؛ رجل ببدلة رسمية، لكن بخلفية عسكرية، أو على الأقل برضى العسكر.
هكذا، تحوّل الجنرالات من فاعلين مباشرين إلى مهندسين خلف الستار. يختارون التوقيت، يزكّون الاسم، ويؤمّنون الطريق. أما الشعب، فيُستدعى لاحقًا ليمنح الشرعية.
الرئيس… ابن التوازن لا ابن البرنامج
الرئيس الذي تصنعه المؤسسة العسكرية لا يأتي ببرنامج بقدر ما يأتي بتوافق. أهم صفاته ليست الرؤية، بل القدرة على الطمأنة: طمأنة الجيش بأنه لن يُهمَّش، وطمأنة الخارج بأن البلد “مستقر”، وطمأنة الداخل بأن التغيير سيكون بلا صدمات.
لهذا، كثيرًا ما بدا الرؤساء متشابهين في الخطاب، مختلفين فقط في الأسلوب. يتغيّر الاسم، لكن تبقى القواعد: الأمن أولًا، التوازنات فوق السياسة، والاستقرار قبل الإصلاح.
الجنرال الذي لا يغادر المشهد
حتى حين يخلع الجنرال بزته، لا يغادر المشهد. يتحوّل إلى “رجل ظل”، مستشار غير معلن، أو مرجعية صامتة. وفي أحيان أخرى، يتحوّل إلى خصم حين يشعر أن “صنيعه” خرج عن النص.
هنا تبدأ الصراعات: صراع الشرعية بين من يملك السلاح ومن يملك الكرسي، بين من يعتقد أنه صنع الرئيس، ومن يرى أنه صار رئيسًا كامل الصلاحيات.
هل هي لعنة أم مرحلة؟
قد يبدو هذا المسار لعنة تاريخية، لكن آخرين يرونه مرحلة انتقالية طويلة، فرضتها هشاشة الدولة وحدود الجغرافيا ومحيط إقليمي مضطرب. فالجيش، في نظر أنصاره، لم يكن طامعًا دائمًا، بل “ضامنًا” حين غابت المؤسسات المدنية القوية.
غير أن السؤال يظل مفتوحًا:
إلى متى تبقى الرئاسة تُصنع خارج المجتمع؟
ومتى يصبح الرئيس نتاج مشروع سياسي لا نتاج توازن عسكري؟
الخلاصة
في موريتانيا، لم يكن الجنرالات مجرد حكّام سابقين، بل كانوا — ولا يزالون — صنّاع رؤساء. يصنعونهم حين يخشون الفراغ، ويكبحونهم حين يخشون المغامرة. وبين هذا وذاك، يبقى المواطن متفرجًا على مسرح تتغير فيه الوجوه، بينما يظل النص واحدًا.
الوريث – محمد يحظيه