كانت الرئاسة فرصة نادرة للجنرال عزيز ليمارس عقده النفسية.. العقدة أخت الهواية، فهي أيضا تحلو لممارسيها، و تشبع فيهم جوعة داخلية، فقد كانت عقدة الأسطورة مايكل جاكسون في طفولته المحرومة، لذلك صرف أمواله على الدمى و مدن الألعاب و كان صديقاً للأطفال، لا يجد نفسه على سجيتها إلا بمخالطتهم، مما جعل أعداءه يتربصون به الدوائر، و يتحينون له الفرص، ليباغتوه متلبسا بحالة “بيدوفيليا”، غير أن الحقيقة أن الطفل المكبوت النائم في سرائر جاكسون لم يكن يوقظه غير اللعب مع أترابه.
هكذا أيضا يمارس ولد عبد العزيز عقداً كثيرة، ربما لا يمكنني حصرها، إلا إذا صاد خداش ظباءه.
هنالك عقدة الجوع التي عض الرجل صغيراً، فآلى هو على عضه كبيرا، و كأنه يتمثل المقولة السائرة “من عضّك فلم تعضه خالك أدرد”.. فمن المشاكل التي شكا منها أطباء الرجل بعد عملية أمعاءه الدقيقة، أنه كان إذا كان لفّ، و إذا شرب اشتفّ، فكما يأكل المال العام بسبعة أمعاء، كان ذلك شأنه مع الذروة و السنام، الذي لا يضاهيه عنده غير صريح اللبن الراغي، الذي يطرب لصريفه في القعو، طربَ فتيان “الجنوب” لشعوذة عبد الرحمن ولد انگذي.
لقد مارس ولد عبد العزيز عقدته في المضغ و النهش و الحزّ و اللوك و القرمشة و الازدراد و الاقتطاع و الابتلاع و القضم و الهضم، فأكَل الشيَ و الطبيخ، و الناضج و الحنيذ، و المقدد و الغريض، و جال في بلاد الله الواسعة متنقلاً بين المواد العربية و الإفريقية و الآسيوية و الأوروبية، فما عرف مصيرٌ ما عرفته مصران ولد عبد العزيز..
دفعت عقدة “الجوع التاريخي” فتى داروموستي لأن يحارب جوعه بتجويع مواطنيه، فشتان ما بينه و حاتم الطائي حين يقول:
لعمري لقدماً عضّني الدهرُ عضةً
فآليت: أن لا أمنع الدهرَ جائعا
الجوع و الفقر صنوان، متلازمان ضربة لازب، و لكي يقضي الرجل على عقدة الغَرَث الأبدية نهب الدولة نهب أسراب الجراد مزارع القمح. و كلما ازداد ماله كلما تعطش أكثر لنهب خيرات البلاد.
كفى بالمرء واعظاً، أن يُرى مثل هذا الرجل المريض، الذي أشرف غير مرة على الهلاك، و الذي يحمل روحه على كفه لما ظلّم و نكّل برجال لا يسكتون على الضيم، و هو غارق في جمع حطام الدنيا و نشبها، فلا هو سيفني ما جمع قبل موته، و لا هو بباذله لما يشتهر به من أنه ضنين بخيل جماد الكف حرون عند مسئلة العافي.
قال لي مرة أحد كبار رجال أعمال موريتانيا إن ولد عبد العزيز كان يجلس أيام حكم ولد الطائع، ساعات طويلة مع سكرتيرته، في انتظار الدخول عليه، ليشكو له عسر الحياة و ضيق ذات اليد، قبل أن يطلب منه “المساعدة”.. و ما كان من الثري الموريتاني – و قد أصبح طلب المساعدة عادة شهرية- إلا أن جعل له راتباً، يستلمه “الرئيس المقبل” لموريتانيا دون الحاجة للقاء الرجل، الذي شاء الله أن يعاني الأمرّين في ظل حكم ولد عبد العزيز.
.. و من عقد ولد عبد العزيز أيضاً التي تظهر جلية في ممارساته الخاصة “عقدته العاطفية”، فالرجل عاش مفتقراً للحب و الحنان، حتى من طرف أبيه الذي لم يطبع علاقتهما وئام قط، لذلك فهو لا يحب أحداً، و لا يملأ قلبه سوى الحقد و الضغينة.. يقول أحد أصدقائه إن أكثر ما يسوء الرجل أن يقال له لقد اثرى فلان، أو حقق نجاحاً في أمرٍ ما.. و لهذا ظهرت عقدة الرجل في معاملته للناجحين من أبناء عمومته، فلم يسلم أحدٌ منهم من ضرره: اعل ولد محمد فال، و محمد ولد بوعماتو، و ميلود ولد لكحل، و أحمد باب ولد اعزيزي.. و غيرهم.
هناك عقدة الرجل من دمامته و قماءته، فقد كان شكل ولد عبد العزيز و مظهره الخارجي و المرض الجلدي الذي يكسو إهابه، عقدة أخرى من عقده المركبة.. لقد عاش مبغّضاً لدى الغانيات، مما حدا به لأن يفرط في علاقاته النسائية منذ أن أصبح ضابطاً رفيع الرتبة، فلم تنجُ من غرامياته حَصانٌ و لا مومس.. و لا تكاد تجد في صالونات موريتانيا لساناً غير رطب بقصص مغامراته و نزواته الداعرة. فهو تيسٌ ينزو على كل ثاغية.. و لم تسلم من معاكساته حتى موظفاته و زوجات أصدقاءه الملاطفين. و هي عادة تعرفها له الحيزبون تكيبر بنت أحمد، و قد جعلتها تطرد احميده ولد اباه من الطابق الذي كان ينزل فيه الرئيس بفندقه بأمريكا، بعد أن لاحظت أن العجوز الشمشوي غارق في جلب المومسات لغرفة الرئيس.. جأرت السيدة الأولى في وجه مستشار التنصت و القوادة رغم أنها تسرّ لصديقاتها أن رصاصة اطويله لم تترك أسفل زوجها ما ينفع ذبابة.
و من عقده المزمنة عقدته من المباديء و القيّم و الأخلاق، فالرجل يعرف في نفسه من النذالة و الانحطاط و السفالة ما لا يعرفه غيره، فهو المطلع حقيقةً على حقيقته، العارف بخفايا و خبايا سوءه و نزقه.. يعرف غدره الذي لم يسلم منه حتى أولياء نعمته من اعل ولد محمد فال لولد بوعماتو للعجوز الطيب ماء العينين ولد النور.. و يعرف حقده على النجاح و العبقرية.. و حنَقه على كل من أولاه الله من نعمه و آلاءه التي عزّ أن تحصى.
هذه العقدة جعلته يكره كل ذي خلق و مبدأ، فهو لا يطيق “الكادحين” لما اشتهروا به من أخلاق و مباديء و نضال من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، في بلاد يسوّد الظلم و الاستغلال صفحات ماضيها.. إنه يكرههم، و يعتبرهم سرطان البلاد التي لن تصلح بغير استئصالهم.!
لقد انتقم ولد عبد العزيز من “اليسار الموريتاني” فعيّن أراذلهم في مناصب كانت لهم شَرَكاً، علقت فيه أجنحتهم، فكانوا ما بين سارق أيفون أو سارق خيمة.. و أراد من هذا الاستثناء البائس خرم قاعدة “اليسار النظيف”.
إنه يكره المباديء و النزاهة و الاستقامة المهنية.. كما يكره المثقفين و الكفاءات العلمية، و يقول إنه “لا يحتاج لموظف كفؤ، و إنما لمن يتّبع الأوامر”.. هي عقدة مركبة من خسته و جهله، تجعله ينتقم من المعرفة و النبل الأخلاقي.
عُقد النذل الجنرال المستولي على السلطة في موريتانيا بالقهر و الغلبة لا حصر لها، و قد وقف حماري عند عقبتها، غير أنني أعتقد أنه موضوع ينبغي أن يناقش، حتى لا يحكمنا في المستقبل مرضى نفسيين.