لا غروَ والصحراويون بأجمعهم مسلمون ويعيشون في هذه الصحراء المترامية الأطراف القليلة السُكان أن يكون لهم إيمان عميق واهتمام كبير بعالم الجن الخفي، حيث أن وجود ذلك العالم لا يمكن لمنكر منهم إنكاره لثبوته بنصوص الوحي الصريحة، لكن يبقى محل اختلاف العلما: هل يمكن رؤية الجن على هيئتهم الطبيعية؟؟
هذا السؤال طالما كان مثار جدل بين المحققين من العلماء، غير أن الصحراويين لم يتعبوا أنفسهم كثيرا معه، فطفقوا يتخيلون صورا للجن ويثبتونها لهم، فادعوا أن أعينهم مشقوقة بشكل عمودي عكس الإنس المشقوقة أعينهم بشكل أفقي، وأن عدد أصابعهم ثلاثة بدلا من خمسة عند الإنس.. بل وذهبوا إلى تحديد أماكن تواجد الجن في هذه الصحراء وتركوها لهم، ومن ما اشتُهر من تلك الأماكن: أغلب أرض واد نون، وصحراء لمريّه شرق تگانت وآدرار وشمال الحوض الشرقي، وجبلا 'شاتوات' في آدرار اللذان يزعم الناس أن أحدهما يسكنه مسلمو الجن والآخر كفارهم وبينهم حرب، وعگلة انتُجي شمال شرق بوتلميت، وسبخة اندغمشه شمال انواكشوط، واگليب ونون قرب بابابي، ودار انوَفل قرب اعوينات الراجاط جنوب النعمه، وعلب بومريگه قرب اغليگ أهل عيسى بابَ التابع لكيفه، ومنيره في شمال شرق إينشيري، واصدر ول المغلف شمال غرب روصو، وآمكيني قُرب الركيز، واقليگ الكيحل في بلدية ام آفنادش في تمبدغه، ورگ النعام في آفطوط غرب لعصابه، وگلابت لجواد بتيرس، واندربكه قرب الركيز، وآمريشه التابع لمركز لعويسي بباركيول، واگليب صمبه لغمامي جنوب مگطع لحجار، وبير التويرسات شمال شرق بوتلميت، وبودفيه شمال غرب المذرذره، وامبيت الرفود قرب تمبدغه والتي يدعي 'الحجابه' أنها عاصمة مملكة للجان اسمُها 'الوقواق'، والظهر لحمر شمال گلير بلعصابه، وصالة بوحديده الشهيره في توجونين بانواكشوط!، وارگوگت جواره التابعه لكوبني..
ويروي سُكان لعصابه أن بومريگه لا يمُر عليه راكب في الليل إلا أسقطه الجن عن دابته.
ويروي أهل بوتلميت أن انتُجي إذا أتاها مستق بعد صلاة العصر وألقى فيها دلوه فسيشعر به ممتلئا، فإذا سحبه وجده فارغا، ولن يتمكن من جلب ماء منها.
وأما قصص الجان مع الناس فأنتجت المخيلة الشعبية الصحراوية منها الأسفار الكثيرة، لعل من أشهرها قِصة اوفّل، حيث يروى أن فنانة من فناني أولاد امبارك -أيام إمارتهم- تاهت في الخلاء، فتزوجها جني وحملت منه وأنجبت طفلا سمته انوفّل، وتميز انوفّل منذ صغره بقوة بنيته وظلمه لأترابه، وكان يحب الموسيقى وحسنَ الصوت إذا ترنم، ولم يكن وُجد من الموسيقى الحسانية أنذاك إلا الجانبتان الكحله والبيظه، ولما بلغ أشده طرده الناس خوفا من بأسه، فخرج هائما على وجهه، واشتد شوقه للطرب، فصنع تيدنيت عظيمه وصار يجوب البلاد مترنما، حتى وصل إلى نواحي زارا بمالي حاليا، فسمعت فتاة صوته وهامت به أيما هُيام، فتعلقت به وأظهرت له ذلك، وطلبت منه أن يختطفها ففعل، وكان اسمُها 'فاطمه للي' وكانت حسناء فاتنة القوام، فأخذها إلى بلاده وابتنى لها منزلا عند الموضع الذي سمي عليه لاحقا(دار انوفل)، وكان يخرج عنها للصيد ولجلب الميرة ويطلب منها أن لا تفتح لأحد حتى يعزف لها شور وضعه 'فاطمه للي أفتحي الدار'، قالوا: وهذا الشور هو أول أشوار انوفل (كر لگنيديه)، وكان الفنانون يسترقون السمع لداره فيسمعونه يعزف حتى أخذوا عنه هذه الجانبه.
ويروى أن شيخا من أهل تگانت كان له تلاميذ من الجن، وكان زاهدا متقشفا، وذات سفر نزل على خيمة فلم يعتنوا به لرثاثة منظره، وهو في غاية التعب من السفر، فأتاه أحد تلاميذه الجن وقال له: يا شيخي هؤلاء الناس ما عرفوا حقك، وقد قلتُ طلعة فاقرأها عليهم فإنهم
يظنونك شاعرا فيكرمونك، فحفّظه الطلعه، وأتى الرجل إلى رب الأسرة فأسمعهوها، فأكرمه غاية، والطلعه هي:
الخط ألا حدُّ خطين ... ماهُ متعديهم لثنين
خط افريوه هي والعين ... التمُجيج وحكم أكشط
ولّ خط أفلواط الزين ... الكُراص الما گط انخط
والخط اعلَ ضيف المُبين ... ما گط انخط ولاهُ خط!
وصالح نفس الشيخ بين فريقين متقاتلين من الجان، فقال فيه أحدهم:
طار الطير الحومة لحدي ... ولّ گاع أبعد -ماهْ اشوي-
من حومة لحدي، أصل خي ... الطير الّ واسَ هاذَ
قصدُ باطير إگل الزي ... وادگل أكاذَ واكاذَ
وانّْ الرشد إبان امن الغي ... والمُره تعگب لذاذَ
وهاذَ گاع ألا ذ يخي ... وافهاذَ ينگال ألا ذَ
ويروى أن قوما من أهل آدرار أقاموا طربا قرب جبليْ شاتُ ليلا، فبينما هم كذلك إذ أقبل عليهم رجلٌ غريب من ناحية الجبلين وقد تأخر الوقت، فسمع الشور وجاء بگاف فيه، فخاطبه أحد الحضور من الإنس بقوله:
يالصيد الّ فيك الهانَ ...
توزن ذ الوقت المتعسس
حگلّ مسلم مُلانَ ...
انتَ ذَ ولّ مانك مســ..لم
فأجابه الجني:
گولُ لمغني هاذَ الواد ...
الما يبغي ذ الوقت الحس
انّ جيت ولاهْ ابميعاد ...
وانِّ مسلم يغير إعس!
فقال الإنسي:
عارِ ي الخُ مانك منزاد ...
إلاهْ وهاذِ فيهَ حس
والليل إبان اتوخر زاد ...
عندِ عنّك لحگك تنعس
فأجاب الجني:
امغني حگ وذَ محبوك ...
والهول ايبان ألا يدرس
واران لك مانِ من ذوك ...
التنفع فيهم گولت بســ.. م الله الرحمن الرحيم!
ويروى أن رجلا كان مسافرا في نواحي واد نون، فرأى خيمة فنزل عندهم للمَبيت، وأقاموا هولا فحضره، ورأى عنده فتاة فأعجبته وجعل يغازلها ويسألها عن نسبتها، فقال له أحد الجان منبها:
انظر فاصباع ... الّ تمكن
تعرفلك گاع ... هي من من
فلما اكتشف أنه نزل بخيمة جان تظاهر برباطة الجأش وقال:
الّ تلهي ... والّ تمكن
يسوَ منهي ... واسوَ من من!
ومن المضطرد المتداول أن المقرئ بلعمش ول محمذ مُبارك الأبييري كان يقسم خيمة تلاميذه نصفين ويجعل بينهما رداء: نصف للإنس ونصف للجن.
وروى أحمد سالم ول باگا في تاريخ الترارزه أن العلامه مولود ول أحمد الجواد اليعقوبي كان ذات خريف ينتجع بأرض تيرس، فبلغه أن گلابت لجواد روضة غناء، وهذه الگلّابَ كما أسلفنا مشهورة بأنها من مرابع الجان، لكن مولود تشجع ونزلها، وذات يوم دخل على أهل بيته ميّم منت حبيب الله ول أشفغ المختار اليعقوبية وكانت ذات حُسن، فأخبرتهُ أنها أتاها رجل غريب المنظر فقال لها:
واللهِ عظّمت الجواد ...
يلُ كانت ولفِ تسقط
ما كاتلنِ من ذُ لغياد ...
وامفوتنٍ ذ الدهر انبط
ماهُ ميّم دارت مقداد ...
مستلبگ فيه أثنعشر خط
فعرف مولود هويته، وأنه من جان الگلابه، وقرر الرحيل، فلما استقلوا جمالهم أتى الجن فصاروا يراوغون هودج ميّم، فأنشأ مولود مرجانيته الشهيره:
صلاة ربي وتسليمٌ على قمر ...
بدرٍ به قد أنار الله أكوانه
إلى أن وصل إلى قوله:
وإنني إن عدا العادون عدوهمُ ...
عليّ وارتكَب الطاغوتُ طغيانه
لمستجير برب المصطفى وبه ...
منهم ومن كل شيطانٍ وشيطانه
ففر الجان.
وكان زعيم المتغمبرين -بل وعموم كنتة الساحل- سيدي ول سيداتي عقيما، فادعى الناس أن ذلك ليس بصحيح وأنه إنما تزوج بجنية فأنجب منها ولدين اختارا فيما بعد السكن في أخوالهما فكان لا يمكن للناس رؤيتُهما!
أنتظر منكم أيها الأصدقاء إثراء الموضوع بما معكم من أخبار الجن في هذه الصحراء والأماكن التي اشتُهرت بأنها سكن لهم وقصصهم مع الناس.. لا بالتعليقات الساخرة أو المنكرة لأننا نعترف أن جُل هذا 'رد الناس' لكنه يبقى مع ذلك تراثنا
الفيسبوكيات