تعد المواطنة قضية مقدسة كونها مرتبطة بأغلى شيء وهو الوطن. والمواطنة صفة مادية يكتسبها الفرد من الانتماء لوطن بعينه والعيش فيه. أما الوطنية فهي صفة أخرى مشتقة من المواطنة وهي شعور يتجلى عند الفرد في مظاهر ومواقف وأشكال عدة. فالوطنية هي ذلك الشعور الرائع المتجدد الذي يبين مدى حب الفرد لوطنه ورغبته الأكيدة في حمايته ودرء المخاطر عنه.
وهي شعور معنوي لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا بالأماكن والأزمنة. الوطنية شعور لا يتغير مهما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال. فالوطنية شعور لا يقبل القسمة ولا الطرح لأنها الفكرة الوحيدة التي لا تقبل التعددية ولا ترغب في العيش مع أفكار أخرى تحرمها من متعة الانفراد بحب وولاء المواطن.
لذا فهي تعمل على مد جسور قوية بينها وبين الفرد، جسور تمهد لعلاقة أبدية متميزة قائمة على الأخذ والعطاء، الحب والولاء، فتعطي الفرد ما يحتاجه من مصالح مادية ومعنوية نظير حبه وانتمائه لوطنه وإظهاره لوطنيته الخالصة غير المنقوصة.
المواطنة والوطنية المقصودة تتجلى في أشكال وسمات ومواقف مختلفة. هي ليست فقط الانتماء لتلك البقعة من الأرض ولا العيش في جنباتها وتنفس هوائها والتمتع بامتيازاتها ولكنها تتمثل أيضا بالكيفية التي يتم بها ممارسة تلك المواطنة قولا وفعلا، ممارسة تعطيها حقها كاملا غير منقوص .
كما تكسبها مفهوما خاصا يختلف عن كافة المفاهيم والعلائق الأخرى. وعندما تتماهى المواطنة مع الوطنية ينتج عن ذلك شعور جميل تجعل الفرد يشعر بأنه جزء من الكل وبأن الكل هو جزء منه، يصبح شعورا يجعل الفرد يشعر بالفخر وبالرضا تجاه الذات وتجاه المجتمع.
كما يصبح حديثا يعبر عنه الفرد بكل اللغات وبكافة الأشكال ويصبح مقطوعة موسيقية يعزفها ملايين من البشر، يصبح علاقة حب خاصة بين طرفين تعطي المواطن الرضا وتعطي المواطنة الزهو والفخر.هذه هي العلاقة الحقة.
وفي بلدنا أصبح للمواطنة طعما فريدا ولونا خاصا بها. فقد استطاعت أن تؤسس لعلاقة متينة بينها وبين المواطن، علاقة مبنية على أسس قوية وروابط متجذرة. ولكن على الرغم من تلك العلاقة القوية التي تربط بين المواطن ووطنه، وعلى الرغم من تلك الامتيازات التي توفرها سمة المواطنة للمواطن.
وهي امتيازات تجعله يعيش في بحبوحة من العيش وفي فضاءات لا يتمتع بها سواه، إلا أنه يوجد هناك من لا يستطيع أن يعبر عن وطنيته بطريقة صحيحة، أو ربما يعتقد أنه يمكن إخضاع قضية المواطنة للمزايدة والمتاجرة لتحقيق غايات وقتية ومصالح ضيقة.
فيتخلى، ليس عن مواطنته ولكن عن وطنيته بكل جحود ودون إدراك بأنه يتخلى أيضا عن تلك الروابط المتينة التي تربطه بالمجموعة البشرية التي يعيش معها ويشترك معها بروابط مهمة يأتي على رأسها المصالح المشتركة.
يتجلى ذلك في مواقف عدة. فمثلا، يتخلى المواطن عن وطنيته حين يسيء إليها قولا وفعلا، وحين ينتقص من معناها وحقوقها عليه أو حين يعتبرها أخذا فقط دون عطاء، أو حين يكون مواطنا جاحدا. والجحود يظهر على شكل إساءة للمواطنة في شكل كلمات يتفوه بها الفرد أو في شكل ردود أفعال عامة أو مواقف تسيء إلى مفهوم المواطنة وفي أحيان كثيرة تكون على شكل سلبية تجاه المجتمع الذي يعيش فيه.
هذه بعض من أشكال التقصير والجحود التي قد تصدر من قبل المواطن وتقف عائقا بينه وبين ممارسته الصحيحة لمواطنته. وعلى الرغم من أننا اجمالا شعوب عرفت بقوة الرابط التي يربطها بالوطن إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور حالات جحود وطنية.
فنحن لا ننكر وجود فئة ممن غطى الرماد عيونهم فلا يعودون يرون من المواطنة إلا السلبيات. أنهم لا يرون تلك النعم التي يتمتعون بها والحلل التي يرفلون بها. فبالإضافة إلى نعمة الأمن والاستقرار هناك نعمة الرفاه ونعمة التواصل الاجتماعي بين الفئات المختلفة، ونعم أخرى كثيرة ربما لا نشعر بها الآن ولكن حتما سوف نشعر بها أكثر في حالة افتقادها.
وكما يحتاج المواطن إلى الشعور بالانتماء للوطن، تحتاج المواطنة أيضا إلى الدعم والى التأكيد بأننا نقف متماسكين وغير ناكرين للجميل حتى نشعرها بحبنا ودعمنا وولائنا للقيم التي تمثلها.
فلا غرو أن نجد المواطنة يوما تقف حائرة أمام مواطن جاحد أنقصها حقها ولم يبادلها نفس الشعور، مواطن تخلى عن وطنيته تحت حجج واهية وذرائع مختلفة. يحدث ذلك عندما لا يكون المواطن قادرا على استيعاب كافة أبعاد مواطنته وتدارك قيمها وعندما يسيء المواطن لمواطنته أو بالأحرى حين يتخلى عنها ويصبح ذلك الفرد «مواطن بلا وطنية».
وكما يختبر المواطن مواطنته، يمكن للمواطنة أن تختبر وطنية الفرد وقدرته على إظهار ولائه الحقيقي واعتزازه بتلك الأواصر التي تجمعه مع المجموعة البشرية التي يقتسم معها الأرض. فالشعور بالمواطنة الحقة يظهر بصورة جلية في حالات الشدة والضيق، وفي حالات الخطر وفي حالات الحاجة الماسة للتلاحم الوطني وفي حالات كثيرة متعددة تظهر فيها معنى المواطنة الصالحة.
إن أكثر ما يجرح المواطنة هو وجود ذلك المواطن الجاحد الذي يتخلى عن وطنيته وينكر تلك النعم المجتمعية. أنه لا يرى إلا السلبيات ويغمض عينيه عن الايجابيات معتقدا بوجود ذلك المجتمع الفاضل الذي حلم به الفلاسفة القدماء. فالحرص على الوطن ومكتسباته والتعبير عن الفخر بمنجزاته هو أروع مظاهر الوطنية.
اظهار الولاء للوطن في جميع الحالات هو مظهر أخر للوطنية. العمل الجاد والمتقن هو مظهر ثالث لوطنية الفرد. ولكن الوطنية الحقة ليس شعورا مؤقتا يظهر في حالات الرفاه والرخاء بل هو شعور متجذر يتجلى بصورة أكبر في حالات الشدة والضيق وفي الحالات التي تستوجب التلاحم والتماسك الوطني وإظهار الولاء للوطن. هنا تتجلى أروع مظاهر الوطنية الحقة.
الياس محمد