يستذكر الموريتانيون كل عام أثناء موسم التمور المتواصل حاليا في واحات النخيل شمال موريتانيا، تاريخهم المسجل بأحرف من ذهب في أسفار مدنهم الأثرية التي يرعاها النخيل منذ قرون، فيجمع السياح والناشطون في الموسم بين متعة تناول الرطب، وجلسات الشاي والشعر، وزيارات المواقع الأثرية والمكتبات التي تزخر بها مدن شنيقط وتشيت وودان وولاته.
آثار ومدن
هذه المدن الأثرية الأربع تحتضن بين ثناياها عبق التاريخ العربي الإسلامي، بعد أن حفرت في ذاكرة التاريخ أسماءها الخالدة وأدوارها الكبرى، رابطةً على مدى قرون بين غرب أفريقيا وأقطار المغرب العربي.
وبالإضافة لهذه المدن التي تشكل معالم تاريخية عربية وإسلامية متناثرة في هذه الصحارى الجرداء، تتوفر موريتانيا على مواقع أثرية تعود لحضارات قديمة بعضها يرجع لمرحلة ما قبل التاريخ.
ومن أبرز المواقع الأثرية الموريتانية المكتشفة حتى الآن مواقع الغلاوية وآغريجيت والبيظ، ومواقع فن النحت الصخري، والرسم الجداري المكتشفة في كهوف منطقتي آدرار وتكَانت، وفي تجاويف جبال مدينتي تيشيت وولاته، والتي يواصل خبراء الآثار بحوثهم لاستكناه ما تمثله وما ترمز له.
وتتوفر موريتانيا كذلك على مواقع أثرية تعود للحقبة الوسيطة وأشهرها مدن كومبي صالح وآوداغوست وآزوكَي، وهي مدن قديمة مطمورة في أقاصي شرق وشمال شرق موريتانيا.
بدايات واكتشافات
بدأت موريتانيا الاهتمام بالبحوث الأثرية والكشف عن مواقعها الأثرية ومخطوطاتها التاريخية مستهل سبعينيات القرن الماضي، حيث أسست سنة 1974 المعهد الموريتاني للبحث العلمي الذي ركز جهوده في بداية مشواره على جمع المخطوطات وانتشالها من الضياع ومعالجتها وحفظها في مستودعاته.
ووسع المعهد نشاطه الاستكشافي ماشطا باطن الأرض وسفوح الجبال لمعرفة ما تحتوي عليه من كنوز وقطع أثرية، وأنماط للفن المعماري الأصيل.
تقول بنت الخالص من المعهد الموريتاني للبحث والتكوين في مجال التراث “إذا كانت المخطوطات تشكل ثروة ثقافية تركها الأجداد للأحفاد، فإن المواقع أو على الأصح المدن التاريخية الأثرية تراث لا يقل أهمية عنها، يجب أن يستنطق ويماط اللثام عنها، وهذا ما يسعى إليه المعهد من خلال التنسيق مع بعثات متخصصة قامت بحفريات لاكتشاف المدن الأثرية المطمورة والتي تحدث المؤرخون قديما بإشارات وإيماءات إلى مواقعها في طول البلاد وعرضها”.
تحت وفوق الأرض
وأوضحت أن المواقع الأثرية المكتشفة حتى الآن تناهز 20 موقعا، منها المدن الأثرية القديمة الثمان، أربع منها مسجلة لدى منظمة “اليونيسكو” كتراث عالمي، وهي مدن شنقيط، ووادان، وتيشيت، وولاته، في حين سجلت المدن الأثرية الأخرى والمطمورة تحت الأرض على لائحة التراث الوطني، وهي كمبي صالح في ولاية الحوض الشرقي، وأوداغست في ولاية الحوض الغربي، وآغريجيت فوق سفح جبل بولاية تكانت، وآزوكي في ولاية آدرا.
جهود بذلت وأخرى مطلوبة
أبرزت بنت الخالص أن “المعلومات المتوفرة عن هذه المدن تم الحصول عليها إثر حفريات قامت بها بعثة من علماء الآثار والمؤرخين الفرنسيين في بداية ستينيات القرن الماضي، أثمرت فيما بعد عن بحوث متخصصة نشرت في مجلات علمية وأطروحات لنيل شهادة الدكتوراه بالتعاون بين المعهد الموريتاني للبحث والتكوين في مجال التراث والوكالة الفرنسية للتعاون”.
وأشارت إلى أن مستودعات الآثار بالمعهد تحتوي على عينات من القطع الأثرية المستظهرة بواسطة الحفريات المذكورة، كما توجد نماذج من الحوليات العلمية والبحوث المتعلقة بموضوع هذه المدن.
وشددت المديرة على ضرورة تكاتف الجهود لتوسيع وتعميق دائرة البحث المتعلق بهذه المدن والكهوف والأنفاق المجاورة لبعضها، خاصة مدينة أوداغست التي من اللازم العمل السريع لتثبيت أسطوانة مسجدها المهددة بالانهيار مع عنونة المعالم الأثرية المحاذية بهذه المواقع.
وأوضحت “أن المعهد الموريتاني للبحث والتكوين في مجال التراث يسعى إلى إعداد دراسات تستهدف تعميق الحفريات وتوسيع دائرتها في هذه المواقع بالتعاون مع الشركاء من الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات الدولية المهتمة” مؤكدة على أن “المعهد سيحارب عمليات النهب وحيازة القطع الأثرية وطمس المعالم واستخدام حجارة المواقع لبناء المنازل من قبل السكان، على أن يقوم بتسييج المواقع والأماكن المحاذية لها من قلاع ومقابر ومزارات”.
بين الموت والحياة
تواجه المدن التاريخية الأثرية الكبرى وهي ولاته وتيشيت ووادان وشنقيط، عوادي الزمن وعوامل التعرية الأربع، فقد اختفت عنها علائم الحياة وتفرق سكانها وخلت شوارعُها من حركة طالما شهدتها أيام عصرها الذهبي، أيام كانت مركزا علميا وحضاريا آهلا تترامى شهرتُه في كل مكان.
مدينة تشيت أو تي شئت
نعم.. إنها مدينة تيشيت التاريخية الموريتانية التي وصفها المؤرخ الموريتاني خليل النحوي في كتابه “بلاد المنارة والرباط” بأنها “إحدى المدن الشواهد التي شاخت وما تزال حية تغالب عوادي الزمن وعوامل الاندثار”.
فبعد أن كانت عاصمة علمية وتجارية لغرب أفريقيا لقرون طويلة تحولت أخيرا إلى مدينة أثرية مهجورة إلا من عدد قليل من السكان، والقائمين على المكتبات التي لا تزال مخطوطة تحت رحمة عاديات الزمن.
إن لمدينة تيشيت أعرق مدن موريتانيا التاريخية وأكثرها تراثا، شأنا خاصا من حيث الزمان كما من حيث المكان؛ وهي مدينة شاخت حقا لكنها مع ذلك حية تغالب عوادي الزمن وتكافح عوامل الاندثار وتقاوم معاول الإهمال والنسيان.
تؤكد المصادر التاريخية ان تيشيت تأسست سنة 536 هـ /1142 م؛ وظلت من أول يوم حاضرة علم ومعرفة منذ ان أسسها الشريف عبد المؤمن وهو سفير من سفراء العلم والدين في الصحراء الكبرى.
وقد أخذ عن القاضي عياض السبتي (ت544/1194م) وحمل علمه من المغرب إلى شنقيط فأسس هذه الحاضرة العريقة وعاش فيها ونشر العلم والمعرفة في ربوعها، ودفن بجانب جامعها العتيق.
وتقول الروايات الشعبية المتداولة في تيشيت ان الشريف عبد المؤمن مؤسسها مر في إحدى رحلاته بالموقع الذي تأسست عليه فرأى واحة جميلة تطل عليها جبال يتدفق منها الماء العذب فأعجبته هذه الأرض وقال: “تي شئت” أي “هذه هي التي اخترت” فسارت هذه العبارة اسما على القرية التي أسسها واستقر بها.
عمران أصيل
تشتهر تيشيت بمسجدها العتيق ومنارته الشهيرة التي يبلغ ارتفاعها 16م، وبعمارتها ذات الطابع العربي الإسلامي المتميز.
وجامع المدينة تحفة فنية فريدة، فعندما تدخل من الباب الضيق للمبنى، يلقاك بهو فسيح يقع وسطه المسجد وعلى أطرافه مجموعة من البيوت الخاصة بالقائمين عليه.
وتحيط بالمسجد عدة مكتبات تحتوي آلاف المخطوطات، لكن الإهمال قد جعل الكثير منها يتلف وسط الصناديق التي خصصت لحفظه.
تظهر منارة ومسجد تيشيت روعة ما أبدعه المهندسون، فقد استطاع المهندسون المعماريون ان يقوموا بتخطيط جميل للمباني، فهناك عمارات من طابقين أو ثلاثة ومصارف للمياه المصممة مع مراعاة الظروف الأمنية حيث كانت البلاد سائبة تكثر فيها عمليات السطو والغارات، فخصص في العمارة طابق أرضي يصعب على من لا يعرف المنزل أن يعثر عليه، وهو مكان لتخزين المؤن أيضا.
وكان العالم الفرنسي تيودور مونو قد زار تيشيت بداية القرن الماضي، وقال انها “مليئة بدواعي الاهتمام ويتمنى المرء ان يمكث فيها، ويشاهد أكثر مما يشاهده المسافر المستعجل”.
شنقيط الفرع والأصل
في أقصى الشمال الموريتاني تحتضن سلسلة جبال آدرار الشامخة بين جوانحها مدينة شنقيط، تلك المدينة التي عرفت بها موريتانيا الحالية عبر التاريخ.
وإلى هذه المدينة، ينسب كبار العلماء الشناقطة الذين ملأ صيتهم العالم باستظهار وحفظ العلوم فافتتن بهم المشارقة في الأزهر وفي الأردن وفي الحجاز وفي السودان.
اختلف في أصل اشتقاق كلمة شنقيط كما يؤكد الباحث الموريتاني خليل النحوي في كتابه “بلاد شنقيط: المنارة والرباط” وذلك على مذاهب، فمن قائل أنها كلمة من اللغة الأزيرية أو البربرية الصنهاجية معناها عيون الخيل، أي التي تشرب منها الخيل الماء، ومن قائل إنها كلمة عربية أصلها سن قيط أي طرف جبل قيط وهو جبل مجاور للمدينة.
ويرى الباحث الموريتاني شغالي ولد أحمد محمود أن أصل التسمية الشقيط، وهي كلمة عربية فصيحة دالة على نوع من الأواني الخزفية كان منتشرا في المنطقة.
علماء شنقيط
تعززت هذه الصورة الإيجابية أكثر عن شنقيط وعلمائها في البلاد العربية خلال القرنين الماضيين بفعل ما حظي به العلماء الشناقطة من مكانة وما تركوا من انطباعات حسنة في المراكز العلمية المشرقية والمغربية التي حلوا فيها.
واستطاعت أن تحافظ على مكانتها التجارية والثقافية حتى نهاية القرن 19 رغم ما عانته من مصاعب وصراعات داخلية وخارجية.
وتعتبر مكتبات أهل حبت، وأهل أحمد الشريف، وأهل حامني، وأهل عبد الحميد، وأهل الوداعة، وأهل السبتي، وأهل الخرشي أبرز الشواهد القائمة اليوم على ماضيها المتميز علميا وثقافيا.
مدينة الحجيج
كانت شنقيط مدينة واحات ومحطة هامة من محطات تجارة الصحراء وكان الحجاج يتجمعون فيها ثم ينطلقون في قافلة واحدة لأداء فريضة الحج فسمي سكان هذا القطر الشناقطة، نسبة إلى المدينة التي تعزز دورها التجاري والديني في أوائل القرن 11هـ حتى أصبحت العاصمة الثقافية لتلك البلاد.
وقد سبق العرب إلى أفريقيا وبلاد المغرب وحكموها أكثر مما حكمها أهلها الأقدمون، فقد اعتنق أهل الصحراء الإسلام وتحدثوا اللغة العربية أصيلهم ودخيلهم، واحتلوا مواقع السلم الاجتماعي على أساس تمثلهم لروح الإسلام وتجسيدهم لروح البطولة العربية ما قبل الإسلام دون أن يكون للسلالة دور كبير في بلورة البيئة الاجتماعية السكانية.
وادان: واد علم وواد تمر
تقع مدينة وادان شمال شرق موريتانيا على بعد 93 كيلو مترا شمال شرق شنقيط، وتأسست عام 536 هجرية، حيث تحولت في ظرف سنوات قليلة إلى نقطة لتلاقي القوافل والتجارة خلال القرن الحادي عشر الميلادي.
وتنقسم حاليا إلى قسمين، حديث مأهول بالسكان وتقع فيه المباني الإدارية، وآخر قديم يسمى المدينة القديمة والتي يعود تأسيسها إلى القرن السادس الهجري (536هـ 1142م).
وتقول جل الروايات التاريخية ان أصل كلمة وادان – رغم أنها تلفظ عموما ودان- هو أن فيها: واد من العلم وواد من التمر.
تعود نشأة المدينة، حسب المصادر الشفهية، إلى ثلاثة رجال صالحين كانوا يبحثون عن مكان مناسب للتقري والإقامة فوجدوا قدرًا مرمية في سفح الجبل المطل على المدينة، واتفقوا على أداء فريضة الحج أولا على أن يستقروا هناك، نظرًا للموقع الاستراتيجي للجبل والذي يصلح لبناء رباط كانوا قد اتفقوا على تأسيسه بعد عودتهم من الحج.
وقد اختار الحجاج عين المكان حسب الرواية المتواترة بعد استخارة قاموا بها وبعد دفن ثلاثة ألواح في كل من مواقع أطار وشنقيط ووادان ثم توجهوا إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج وبعد عودتهم عام 536هـ وجدوا اللوح المدفون في شنقيط قد غطته الرمال، والذي في أطار جرفته السيول، بينما بقي الذي في وادان ثابتا في مكانه فباركوا موضع وادان وشرعوا في تأسيس المدينة وأول عمل قاموا به كان بناء المسجد ثم المؤاخاة بين سكان القرى المتنافرة والمتناثرة في المنطقة.
وقال البكري “وادان مدينة في جنوبي أفريقيا بينها وبين زويلة عشرة أيام من جهة أفريقيا وبينها وبين مدينة تاجرفت، ثلاثة أيام والطريق من طرابلس إلى وادان يسير في بلاد هوارة نحو الجنوب في بيوت من شعر وهناك قرى ومنازل إلى قصر ابن ميمون من عمل طرابلس ثم تسير ثلاثة أيام إلى صنم من حجارة مبني على ربوة يسمى كرزة ومن حواليه سكان من قبائل البربر يقدمون له القرابين ويستسقون به إلى اليوم ومنه إلى ودان ثلاثة أيا”.
المدينة التي حيرت ابن بطوطة
تلك هي مدينة ولاته الموريتانيّة المؤسسة في بواكير القرون الأولى للميلاد.
وكانت في البدء تُسمّى بيرو لكنها ازدهرت مع مجيء الدّين الإسلامي، فأصبحت عقدة للتجارة الصحراوية. وأصبحت القوافل تتّخذها مركز انطلاقٍ لتجارة الذهب القادم من مالي إلى سواحل المتوسّط.
وربما يحسن بهذا المقام أن نذكر أنّ الرحّالة المغاربي ابن بطوطة قد زار ولاته في حدود 726هـ، أي مع مطلع القرن الرّابع عشر الميلادي، وتحدّث في رحلته عن الازدهار الشّديد الذي تعرفه هذه المدينة بحكم موقعها بين الأقاليم السّودانية مالي وبين سجلماسة والواحات المغربية.
ومنذ مطلع القرن السّادس عشر الميلادي عَرفت مدينة ولاته بداية نهضةٍ فكريةٍ كبيرةٍ، وأصبحت أحد أهمّ مراكز الإشعاع الثقافي العربي الإسلامي، فهاجر إليها عددٌ كبيرٌ من علماء مدينة تمبكتو المالية التي عرفت قلاقل.
مدينة ولاته الآن مُعرّضة بكلّ تراثها الإسلامي العريق للغرق بفعل التّصحر وزحف الرّمال. وهذا هو سبب الحملة الدولية التي أطلقتها اليونيسكو من أجل المُدُن التاريخية الموريتانية الأربع.
وإن كانت ولاته أكثرها عرضةً لواقع هجرة عدد كبير من سكّانها لِحَدٍ أنّهم لم يعودوا الآن يزيدون على الألفي نسمةٍ، وهم الذين كانوا يزيدون على العشرات من الآلاف منذ عهودٍ سحيقةٍ.
مدن تستغيث
ولعلّ العزاء الوحيد في بقاء مدن ولاته وشنقيط ووادان وتشيت العربية هو نشاط المكتبات والمخطوطات المدعومة لحدٍ ما من اليونيسكو والمعهد الموريتاني للبحث العلمي، وهذا ما سمح بتصنيف بعض مكتباتها التي تحوي آلاف المخطوطات التي لا تُقدّر بثمنٍ، على أن البعض الآخر ما زال عرضةً للإهمال ويعيش حالةً مزريةً تُهدّدُ هذه المدن، إن لم يتداركها الغيورون على ثقافة هذه الأمّة، بالانقراض لتصبح بعد هذا الصيت الذي ملأ الدنيا، أثرًا بعد عين