تتوالى تصريحات رئيس مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية، يفغيني بريغوجين، والتي كان آخرها طلب سحب مجموعته القتالية وتسليم موقعه للقوات الشيشانية التي تقاتل إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، في خطوة احتجاجية منه على نقص الذخيرة، وهو ما يثير تساؤلات حول تماسك الجبهة الداخلية لقوات، فلاديمير بوتين، التي تواجه مصاعب في الغزو الذي تشنه على البلد الجار.
وتحدث بريغوجين في مقطع مصور ظهرت فيه جثث مقاتليه، حيث قال إنه سينسحب اعتبارا من العاشر من مايو من باخموت الأوكرانية، متهما هيئة الأركان الروسية بعدم توفير الإمدادات اللوجستية والذخائر، رغم تحقيقه "انتصارات عجز عنها الجيش النظامي" حسب زعمه.
هاجم بريغوجين تحديدا وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، ورئيس هيئة الأركان الروسية، فاليري غيراسيموف.
وقال بريغوجين في الفيديو وهو يتجول بين عشرات الجثث "إنهم من رجال فاغنر، لقد قُتلوا اليوم حتى تتمكنا من أن تسمنا خلف مكتبيكما!", وصاح بغضب مخاطبا شويغو وغيراسيموف "أين قذائفي اللعينة؟".
وقال محللون سياسيون إن تصريحات بريغوجين الذي يعتبر حليفا قويا للرئيس الروسي تعكس حالة من "الصراع" داخل روسيا، والتي قد يظهر بريغوجين وكأنه "يتمرد" على المؤسسة العسكرية.
ولكن بريغوجين يريد أن يؤكد لبوتين أيضا أنه "البديل والحليف الأكبر له وسط ضعف المؤسسة العسكرية الرسمية"، فيما لم يستبعد آخرون أنه "يطمح لتقديم نفسه كبديل محافظ قوي يخاف على مصالح موسكو".
مدير التحليل السياسي العسكري في معهد هدسون في الولايات المتحدة، ريتشارد وايتز، يرجح أن الأزمة بين "فاغنر والجيش الروسي هي جزء من صراع أكبر على السلطة داخل الكرملين، ولكن هذا لا يعني أنه يريد تقديم نفسه كمنافس لبوتين داخل موسكو، وهو يريد أن يبين أنه حليف أكثر موثوقية وفعالية لبوتين، ليصبح بهذا منافسا للجيش على تقديم الولاء للرئيس الروسي".
وأشار إلى وجود تقارير غير مؤكدة تفيد بوقوع "اشتباكات غير معلنة بين قوات فاغنر والجيش الروسي، ورغم غرابة هذه المعلومات إلا أنها قد تحدث على أرض الواقع".
ويبرر بريغوجين طلبه للانسحاب إلى "نقص الذخيرة" منذ وقت طويل، متهما رئاسة الأركان بتزويده فقط 32 في المئة من الذخيرة المطلوبة منذ تشرين الأول الماضي.
ويتهم بريغوجين منذ أشهر هيئة الأركان الروسية بعدم إمداد مجموعته بكمية كافية من الذخائر لمنعها من تحقيق انتصار في باخموت يعجز عنه الجيش النظامي.
الباحث السياسي الروسي المقيم في موسكو، أندريه أنتيكوف، وصف تصريحات رئيس مجموعة فاغنر بـ"المناورات السياسية لبريغوجين"، مؤكدا أنها "لن يؤثر" على العمليات في أوكرانيا، قائلا إنه "إذا لم تكن مجموعة فاغنر تقاتل في باخموت، فهناك مجموعات قتالية أخرى موالية لروسيا".
وأضاف أن "مجموعة فاغنر قد تترك مواقعها بشكل حقيقي في مدينة باخموت" وتسلم مواقعها إلى قوات شيشانية والتي ستتابع القتال ضد القوات الأوكرانية.
وأعلن الزعيم الشيشاني، رمضان قديروف، عبر تلغرم، الجمعة، استعداد مقاتليه لتسلم المواقع الروسية في المدينة، حال سحبت فاغنر وحداتها.
وقال: "مقاتلونا مستعدون للمضي قدما واحتلال المدينة, سيستغرق الأمر بضع ساعات"، موضحا أن قواته "قاتلت بالفعل إلى جانب وحدات فاغنر في مدن بوباسنا وسيفيرودونتسك وليسيتشانسك الاوكرانية والتي سيطرت عليها روسيا".
ورغم تصريحات رئيس مجموعة فاغنر، أكد أنتيكوف أن هذا "لا يعني حدوث أي نوع من الصراع أو الاشتباكات مع الجيش الروسي، إذ أن فاغنر بطريقة أو بأخرى هي جزء من الجيش الروسي".
ويرى الخبير السياسي وايتز أن "تهديدات رئيس فاغنر بالانسحاب من مدن أوكرانية لن تتم على أرض الواقع، وحتى لو تمت لن تكون انعطافة في الحرب الروسية على أوكرانيا".
ويشرح أنه من الصعب تحديد أثر انسحاب فاغنر، خاصة وأنها ليست المرة الأولى التي يشتكي فيها من عدم تعاون الجيش الروسي معه، في الوقت الذي تمكن من إحراز تقدم لصالح موسكو في مناطق في أوكرانيا.
ويضيف وايتز أن "رئيس فاغنر أعرب عن استيائه أكثر من مرة من تعامل الجيش الروسي، مؤكدا أنهم يحاولون تجويعهم بتقليل إمداداتهم العسكرية واللوجستية".
وتكبدت فاغنر خسائر فادحة في الأشهر الأخيرة في محاولتها للسيطرة على باخموت.
واحتلت المجموعة قسما كبيرا من المدينة، لكنها عاجزة عن الاستيلاء على آخر المواقع الأوكرانية.
وقال رئيس فاغنر في مقطع مصور "كنا على وشك السيطرة على مدينة باخموت قبل 9 أيّار"، تاريخ احتفال موسكو بالنصر على ألمانيا النازية في 1945.
وتابع "عندما رأى البيروقراطيون العسكريون ذلك، أوقفوا إمدادات الذخيرة. لذلك، اعتبارا من 10 أيّار 2023، سننسحب من باخموت".
وأضاف "في 10 أيّار سنسلم مواقعنا في باخموت إلى وحدات وزارة الدفاع ونسحب عناصر فاغنر إلى الخلف لمداواة جراحنا".
من جانبه يرى الكاتب المحلل السياسي الأميركي، إيلان بيرمان، أنه في "حال انسحاب فاغنر من ساحة المعركة الأوكرانية، سيؤدي ذلك إلى تطور كبير في الأحداث، خاصة وأن هذه المجموعة المسلحة لعبت دورا رئيسيا في تعزيز موقف موسكو في المعارك ضد كييف".
وقال إن بريغوجين يعي تماما "أن فاغنر إلى حد بعيد تعتبر العنصر الأكثر قدرة في المجهود الحربي للكرملين، وخسارة ولائها سيوجه ضربة كبيرة لأهداف موسكو العسكرية".
ويرجح بيرمان أن تصريحات فاغنر أو انسحابها تكشف عن "صراع مهم على السلطة داخل روسيا نفسها، لأن بريغوجين الذي يعتبر حليفا للرئيس بوتين، يقدم نفسه بشكل متزايد كبديل محافظ لبوتين".
ولم يستبعد بيرمان أن نشهد ترشيحا لبريغوجين لرئاسة البلاد في وقت لاحق، مشيرا إلى أنه "كلما زادت التوترات والخلافات بينه وبين موسكو، زاد احتمال حدوث ذلك".
ويرى الدبلوماسي السابق وأستاذ العلاقات الدولية الأوكراني، فلاديمير شوماكوف، أن "تصريحات بريغوجين تمثل رسالة ابتزاز لبوتين، فإما أن يزوده بذخائر وجنود أو ينسحب من باخموت"، مشيرا إلى أن زعيم المرتزقة ينطلق من قاعدة أن مقاتليه "أفضل" من القوات النظامية للجيش الروسي.
وتابع أنه, "يعطي إشارات بأن الجيش عاجز عن تحقيق انتصارات في أوكرانيا وفاغنر لديها القدرة على ذلك, هناك فرضية تتحدث عن أن هجوم المسيرات على الكرملين جاء من ضواحي موسكو عبر فاغنر لكي يوجه بريغوجين رسالة لبوتين بأن جيش روسيا عاجز عن حمايته مما يشوه سمعة وزير الدفاع".
وينفي الكرملين أن يكون هناك أي توتر في صفوف القوات الروسية، لكن تصريحات بريغوجين تثبت العكس، بحسب تقرير لوكالة فرانس برس.
وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف ردا على أسئلة الصحفيين إنه "اطلع على هذه التصريحات في وسائل الإعلام"، رافضا التعليق عليها.
من جهتها تجاهلت وزارة الدفاع الروسية في نشرتها اليومية تصريحات رئيس "فاغنر"، متحدثة بشكل مقتضب عن "هجمات" عناصر هذه المجموعة المسلحة في باخموت "مدعومة" بـ "الوحدات المجوقلة" للجيش النظامي.
كما لم يستبعد شوماكوف أن يكون لدى بريغوجين طموحات سياسية داخل الكرملين، مضيفا في رده على إمكانية تمرد زعيم فاغنر على الرئيس الروسي "كل شيء ممكن بصراحة".
الباحثة السياسية في معهد واشنطن المتخصصة بالشأن الروسي والأوكراني، آنا بورشفسكايا، قالت "في هذه المرحلة من الحرب ليس من المعروف ما إذا كانت تهديدات بريغوجين يمكن الأخذ بها أو لا، إذ صرح أكثر من مرة بطريقة عاطفية منتقدا الجيش ووزارة الدفاع".
وترى في حديثها لموقع "الحرة" أن فاغنر لطالما "كانت لها خلافاتها ومعارضتها لسياسات وزارة الدفاع، ناهيك عن انتقادات بريغوجين المباشرة للكرملين".
وأشارت إلى أن بريغوجين حليف قوي لبوتين ولكنه "ينتمي أيضا لجماعات يمينية متطرفة" في موسكو، "والذين قد يكونوا متطرفين في آرائهم بالدفاع عن روسيا أكثر بوتين نفسه".
ويستطرد الدبلوماسي السابق، شوماكوف أن فيديو زعيم مجموعة "فاغنر" يجسد الصراع في روسيا "بين وزارة الدفاع وجهاز الأمن الفيدرالي" حيث لا توجد قيادة عسكرية واحدة، وفق تعبيره.
وعلل ذلك على اعتبار أن "مرتزقة فاغنر هو مشروع لجهاز الأمن الروسي لتحقيق أهداف موسكو في إفريقيا, هذا ما ينبغي إدراكه، ولهذا هي دائما ما تنتقد الجيش الروسي"، وفق قوله.
وقال شوماكوف إن فيديو بريغوجين يشير إلى أن روسيا تشهد "أزمة عسكرية وإدارية كبيرة" قياسا بالتهديدات التي أطلقها زعيم المجموعة شبه العسكرية.
وشدد شوماكوف على أهمية استغلال أوكرانيا لهذا الصراع الداخلي في روسيا لمصحتها. وقال إن "أي انسحاب لفاغنر يعني سقوط جبهة باخموت في أيدي القوات الأوكرانية"، مما يشكل مكسبا لكييف التي تستعد لهجوم مضاد واسع النطاق بدعم غربي.
كما أن انسحاب فاغنر سيمهد الطريق نحو "هروب" الجنود الروس التابعين للجيش النظامي من ساحة المعركة "بسبب الإخفاقات المستمرة