عمل الملثمون على إقامة دولة خاصة بهم، ووسعوا نفوذهم نحو الجنوب ليصلوا إلى حدود دولة غانا في إقليم السودان.وقد اتخذوا مدينة أودغست عاصمة لدولتهم ومركزا لها وظلت تحكم فيها فترة من الزمن. وكانت نشأة هذه المدينة تحت حكم دولة غانا الزنجية، لكن اتحاد الأمازيغ بعد إسلامهم في القرن الثالث الهجري دفعهم لمهاجمة هذه الدولة، وذلك لنشر الإسلام بين الزنوج فاستطاعوا بقيادة زعيمهم المسلم يَتْلُوثان بن تكلان هزيمة الزنوج والاستيلاء على مدينة أودغست وضمها لمناطق نفوذهم، ومنذ ذلك الحين اتخذوها حاضرة لدولتهم المسلمة.
وقد اشتهر من ملوكهم في تلك المرحلة الملك " يتلوثان" وهو أول ملك للصحراء من لمتونة، ويذكر عنه أنه كان يركب في مئة ألف نجيب وكانت وفاته سنة 222 هـ ، وقام بالأمر بعده "يلتان". وتوفي سنة 287 هـ ، وأعقبه الملك تميم، الذي قتل سنة 306 هـ ، ويظهر أن مقتله كان نتيجة لخلاف بين قبائل صنهاجة حول زعامة القبيلة، وانتهزت مملكة غانا هذا الخلاف فهاجمت أودغست لكنها لم تستطع رد أملاكها السابقة بعد استقرار الملثمين فيها، وإن كانت قد ظفرت ببعض النفوذ على أودغست مكتفية بتحقيق مصالحها التجارية فقط ، إلا أن هذا التفوق لمملكة غانا لم يدم طويلا، وذلك أن قبائل صنهاجة قد اتحدت على ما يبدو وأزالت النفوذ الغاني، وربما كان ذلك سنة 350 هـ أيام أبي محمد بن تيلات اللمتوني ملك أودغست ، ويؤيد ذلك ما أورده ابن حوقل عن أودغست حينما زارها في هذا التاريخ تقريبا، وذكر أن لها ملكا قويا اسمه تنبروتان بن اسفيشر تخضع له كل قبيلة صنهاجة، وأن ملوك غانا يهادونه لحاجتهم الماسة إليه وأن حكمه استمر أكثر من عشرين سنة ولا شك أن هذا الملك هو الذي ذكره البكري باسم " تين بروتان بن ويسنو بن نزار "، والذي كان يحكم أودغست في عشر الخمسين وثلاث مائة، وكان من أقوى ملوك صنهاجة حيث دان له أكثر من عشرين ملكا من ملوك السودان يؤدون له الجزية، واتسعت دولته كثيرا حتى وصلت إلى مسيرة شهرين في مثلها، وكان يركب في مئة ألف نجيب، وبلغ من قوته أن الأمازيغ من غير صنهاجة يستعينون به ضد بعضهم البعض ، ولم تستمر هذه القوة طويلا، فمع مطلع القرن الخامس الهجري تفرقت كلمة الملثمين، وأختلفوا مرة أخرى، فاستعادت دولة غانا نفوذها في الصحراء، وسيطرت على طرق التجارة، وانسدت مصادر الرزق في وجه الملثمين، فعادوا للوحدة من جديد، وذلك حوالي عام 424هـ بقيادة إبي عبدالله بن نيفاوت، المعروف بتادشت اللمتوني، لكن هذا الحلف لم يدم طويلا فلم يستمر أبو عبدالله في الحكم إلا ثلاث سنوات، حيث قتل في معركة مع ملك غانا وكان أبو عبدالله آخر ملوك أودغست من لمتونة، فقد حكم بعده يحيى بن إبراهيم الجدالي من قبيلة جدالة، وكان توليه تمهيدا لقيام دولة المرابطين في المغرب.
قد اختلف في اسم عاصمة المملكة "أودغست" فلقد وردت بصيغ متعددة فابن حوقل الذي كان ربما أول من أشار إليها يسميها بهذا الاسم "أودغست" ، ويتابعه البكري في ذلك ، أما ابن سعيد المغربي فقد وردت في كتابه الجغرافيا ( أوداغست) ، أما ياقوت فقد أوردها (أودغست) بالفتح، ثم السكون، وفتح الدال المعجمة، والغين المعجمة، وسكون السن المهملة، والتاء فوقها نقطتان، ونقل ما ذكره عنها ابن حوقل ، أما الحميري فقد أوردها (أودغشت) معتمدا في ذلك على الإدريسي.وكما وقع الاختلاف في صيغة اسمها اختلف في موضعها فابن حوقل يذكر على أنها على مسيرة شهرين من سجلماسة منحرفة محاذاة عن السوس الأقصى، بحيث تكون هذه المدن الثلاث مثلث أقصر أضلاعه من السوس إلى أودغست ، ويتابعه البكري، ويزيد عليه بذكر المسافة بينها وبين غانا وهي خمسة عشر يوما. ويذكر الحميري أن بينها وبين واركلان إحدى وثلاثون مرحلة ، ومكانها الآن غير معروف وظهرت بعض الاجتهادات لتحديده حيث يفترض بارث أنها تقع بين خطي طول 10 – 11 غربا وبين خطي عرض 18 – 19 شمالا أي أنها جنوب غربي تجكه.
كان جيش مملكة أودغست قويا وكثير العدد حتى أنه يبلغ أحيانا مئة ألف، ويقوده الملك بنفسه، وحقق انتصارات عديدة على جيش دولة غانا، واستعان به أهل المناطق المجاورة على بعضهم البعض، وقد وصف البكري جيش الملثمين، وطريقتهم في القتال فذكر ( أن لهم في قتالهم شدة وجلد ليس لغيرهم، وهم يختارون الموت على الانهزام) ، وغالب قتالهم على النجائب (الجمال) وربما استعملوا الخيول، لكن منهم من يقاتل رجاله فيدخلون المعركة صفوفا، ويقدمهم رجل يحمل الراية، ويصفهم البكري بأنهم (أثبت من الهضاب) ويمتازون بالدقة في استعمال المزاريق (الرماح)، بحيث أنهم لا يخطئون في الرمي بها، أما أسلحتهم فهي القسي الطوال والمزاريق.
دور مملكة أودغست في نشر الإسلام
كان لقيام مملكة أودغست أثر كبير على انتشار الإسلام في السودان، فهي المعبر الذي عبر منه الإسلام إلى مملكة غانا، وقد كان لملوكها دور كبير في جهاد أهل السودان وإدخالهم في الإسلام، ويقول عنهم البكري بأنهم ( على السنة مجاهدون للسودان) وقد قتل بعض ملوكهم في هذا الجهاد، ويذكر عن ملكهم تيبوتان أنه شديد التحمس لنشر الإسلام بين قومه وبين الزنوج المجاورين من ناحية الجنوب.
ومع أن هذا الجهاد كان له أثر على انتشار الإسلام في السودان إلا أن الأثر العظيم كان للوسائل السلمية، فالمعروف أن الإسلام انتشر في السودان وخاصة في دولة غانا الوثنية بهذه الوسائل السلمية وهي التجارة والهجرة.
لقد كان من آثار الاحتكاك الدائم – سواء الحربي أو السلمي – بين مملكة أودغست الإسلامية وبين مملكة غانا انتشار الإسلام في تلك الدولة الوثنية ويحدثنا البكري الذي زار المنطقة في القرن الخامس الهجري عن انتشار الإسلام في دولة غانا، فالعاصمة غانا تنقسم إلى قسمين: قسم مسلم هو الشرقي، وقسم وثني هو الغربي، والقسم الشرقي فيه اثنا عشر مسجد أما الغربي ففيه مسجد واحد، وموظفو الملك الوثني غالبهم من المسلمين، فالتراجمة وصاحب بيت المال والوزراء جلهم من المسلمين، ولم يقتصر انتشار الإسلام على غانا وحدها، بل إن البكري يذكر إسلام ملك التكرور وارجابي بن رابيس ( ت 432 هـ )، وكذلك إسلام أهل سلي على نهر النيجر و حينما جاء الفتح المرابطي لغانا سنة 469 هـ - 1076 م كان أغلب أهلها من المسلمين، ولم يبق من الوثنية إلا الملك فأزاله المرابطون وبدأ حكم الملوك .
سليمان عباس البياضي