
لا يمكنُ أن نقتلعُ العبودية تمامًا من بنية العلاقة بين لحراطين والبيظان ويكفي أن ننقب في أرشيف المنطقة أو أن نستعرض شذرات التاريخ المكتوب والمنقول شفهيا، لنفهم طبيعتها وشروطها. إنها رابطة تكوينية، لا تُمحى، مهما بدا للبعض أنهم تجاوزوها أو تظاهروا بعدم تأثيرها على نسق العلاقات بين الجماعتين اليوم. لكن، إذا افترضنا جدلًا أننا أزلنا هذا العامل، محوناه تمامًا، فماذا يبقى حينها؟ كيف ستكون ملامح العلاقة بين الطرفين؟ هذا السؤال، رغم بساطته الظاهرة، هو سؤال وجودي، ومصيري، يتجاوز السرديات السطحية، ليضعنا أمام حقيقةٍ لم يتم التصالح معها بعد من طرفِ البيظان خصوصًا، وسأوضح لماذا فيما بين السطور ..
أولا، وقبل كل شيء، من المهم أن نزيح الستار عن بعض المسلمات التي نتعامل معها كيقينيات لا تقبل الجدل، لأنها ليست مجرد نظريات أو افتراضات، بل حقائق ملموسة، معاشة، تُشكِّل هذا المجال التاريخي والاجتماعي. وسأحيد خلال المقال - قدر ما استطيع - عن استدعاء العامل الثقافي، لا لعدم أهميته، ولكن لكونه هشًا في مثل هذا السجال، وعصيًا على التأطير المعرفي. بل هو، فوق ذلك، خطرٌ سياسيٌ على الطرف الذي يُراد احتواؤه مجددًا، ودمجه قسرًا في مجالٍ ضاق باطراد، حتى كاد ينهارُ على ذاته: مجتمع البيظان ما بعد الاستقلال.
كان الإستغلال تحديا وجد البيظان أنفسهم في مواجهته، بلا خيار، بلا سابق استعداد، ومع توالي الأجيال، باتوا مجبرين على إعادة تعريف أنفسهم، مرةً كل جيل أو جيلين على الأقل، في محاولة يائسة لصياغة هوية مستقرة، متماسكة، وسط فشلٍ ذريع لكل مشاريع الاندماج الكبرى مع العرب، ومع الصحراويين الذينّ حاربوهم وهددوا وجود دولتهم الفتية، بل ذهبّ بعض منظريهم السياسيين منذُ بواكير الإستغلال إلى الدعوة، إلى دولة جامعة مع الشعوب الناطقة بالحسانية في شمال مالي والنيجر. والتي يعتبرونها شريكا لهم في تَركةٍ تاريخية مزعومة يطلقون عليها [ ارض البيظان ] كل هذه المشاريع تبعثرت، وتساقطت تباعًا، حتى لم يبقَ أمامهم سوى إعادة تعريف الشعوب والأمم التي يشتركون معها في التاريخ الواعي والمصير المحتوم، في محاولةٍ لإعادة تكييفها ضمن آخر ما تفتقت عنه العبقرية السياسية للبيظاني فائق الذكاء، والذي يرى نفسه محورًا لا بديل عنه، ونقطة ارتكازٍ لا تُناقش في هذا الإقليم.
لكن، مهما اختلف العرب والزوايا حول من أين نزحوا، وكيف دخلوا المنطقة، فإن الحقيقة التي لا تقبل التشكيك، أن مجتمع لحراطين ليسّ وافدا، ولا طارئًا، وليست له أي ارتباطات " قَرابية " خارج خارطة الجمهورية، لا قديمًا ولا في التاريخ الحديث، بل هو وريثٌ لقبائل وجماعات استوطنت هذه الأرض منذ فجر التاريخ. عاشوا هنا قرونًا طويلة، لم يسمعوا بعبارة “البيظان” ولا “أرض البيظان”، ولو سمعوها لما فهموا لها معنى. وافترض انهم، لم يتصوروا أن يأتي زمنٌ يُنكَر فيه أثرهم، إلا إذا تمُ نكران أحفادهم أنفسهم. ومع ذلك، لم يكن لهذه العملية أن تتم قديمًا دون عوامل طبيعية في الاجتماع الإنساني، مثل الحرب والاقتصاد. فالطمر لا يحدث من تلقاء نفسه، بل يحتاج إلى قوةٍ تفرضه، وإلى ظروفٍ تدفع إليه.
اليوم، يجد هؤلاء الأحفاد أنفسهم أمام معضلة وجودية: أن يُدفعوا قسرًا إلى هويةٍ لم يساهموا في تشكيلها، ويُوصَموا، تعسفًا، باسم “البيظان” هربا من وصمةِ عبيد، او من اعتباراتها.
لم يكن لأسلافهم المنسيين أن يتخيلوا يومًا أن تدور عجلة الزمن بمثل هذا العنف واللامبالاة تجاه قرابينهم، وأدعيتهم، وصلواتهم. أن يتحول إرثهم الطويل إلى ظلال باهتة، وأن يصبح أبناؤهم غرباء في الأرض التي ارتوت بعرق ودماء أجدادهم، وشهدت صمودهم في وجه حرِّها وبردها، وتقلباتها القاسية. لم يكن شيءٌ سهلًا عليهم، لا البقاء ولا الازدهار، لكنهم رغم ذلك عاشوا، وتكاثروا، ورسّخوا وجودهم جيلاً بعد جيل ومهما كانت الظروف. ومع ذلك، ها نحن اليوم أمام محاولة أخرى لإنكارهم، لا باعتبارهم مجرد أفراد، بل كمجتمع مستقلّ، له كيانه، وهويته، وتاريخه المتمايز عن البيظان.
هذا الإنكار ليس ظاهرة جديدة، بل هو انعكاس لوعيٍ تاريخي نشأ قبل الدولة الحديثة، في زمنٍ كان المجتمع فيه موزعًا وفق هرمٍ صارم، يحدد مواقع الجميع بلا استثناء: زوايا، وعرب، ومعلمين، وآزناگه، وإيگاون، وعبيد. لم يكن ثمة لبسٌ في التصنيفات، ولا حاجة لإخفاء الواقع خلف شعارات المساواة. كل فئة كانت تعرف مكانها، وكل فرد كان يدرك حدوده، ولم يكن العبد يحظى في هذا بمعاملة محترمة، إلا حين يوارى الثرى، شأنه شأن البشر الطبيعيين، حين يصبح الموت وحده هو المعادل الوحيد الذي يساويه بغيره من الناس.
أما اليوم، فالحرطاني الذي نتحدث عنه من زاوية وعيه وامكانياته، ليس امتدادًا مباشرًا لذلك العبد القديم، بل هو كيان تاريخي جديد، نشأ في سياق مختلف من بعض النواحي، وتأثر بعوامل متباينة الروافد، تمامًا كما هو حال البيظاني المعاصر، الذي، رغم تغيّره في نواحٍ كثيرة عن أسلافه، لا يزال متمسكًا بالمبدأ الجوهري الذي قام عليه مجتمعه القديم: أن الكائن الوحيد الجدير بالاحترام، بالاعتراف، وبالقيم التي تصون عرضه وتضمن له حقوقه داخل هذا الفضاء الاجتماعي، هو البيظاني.
ومن! مِن العبيد كان يجرؤ على أن يتخيّل، بعد كل صبره، وكل تقواه، وبعد تعبه المضني وصراعه المستميت مع الطبيعة ومع الإنسان الآخر- ذلك الإنسان الأعمى- أن أقصى ما يمكن أن يبلغه وجوده، بعد هذا الصبر الطويل، هو أن يُمنح هوية البيظاني؟ وكأن هذه هي الغاية القصوى لمسيرته، وكأن حياته لم يكن لها مسعى إلا أن يُدرج ضمنهم، بلا سؤال، بلا اعتراض، بلا خيار آخر سوى الامتنان!
لكن الحرطاني اليوم يقف ليقول بوضوح، واسمحوا لي أن اشتبكّ هنا مع الموقف ذاتيا: لا، لستُ بيظانيًا، ولن أكون. أنحدر من جماعة تدعى لحراطين، لها تاريخٌ طويل في العبودية، لكنها أيضًا تمتلك تاريخًا أطول في الحرية والكرامة. لم تبدأ حياتي يوم دوّنتم اسمي في سجلاتكم، ولم يتحدد وجودي وفقًا لرؤيتكم. جذوري ممتدة في هذه الأرض، في صخورها ورمالها، في جريان مياهها وفي جفافها. لا ملامحي، ولا لساني، ولا طريقة حديثي، ولا ملابسي تجعلني شخصا آخر. أنا ابن هذه الأرض بلا قيد، ولن أسمح لأحد أن يعيد تشكيل هويتي وفقًا لخياراته هو، أو وفقًا لحساباته هو..
ثم يتحرر من ربقة التاريخ، كما هو مقدَّر له، وكما هو مقدَّر لكل من يرزح تحت نير القهر. يتحرر أخيرًا من القهر المادي الذي فُرض عليه، يكسر اغلال عشرات السنين من التدمير الممنهج، ومن التعذيب والسحل والنهب والتجويع والاغتصاب، ومن مشاهد الأجساد الممزقة من خلاف، أمام الأمهات والأخوات والبنات، في واحدة من أبشع صور البؤس التي يمكن للإنسان أن يعقلها. عشرات السنين من التنكيل، لم يكن جسد الحرطاني وحده ضحيتها، بل عالمه كله: لغته، تقاليده، رموزه، كل ما يمت إلى جذوره بصلة. تم تشويه وجوده والسخرية من ثقافته، ثمُ صُغّرت، نُبذت، حتى كادت تنمحي.
وأُرغم على أن يصبح بضاعة تُباع وتُشترى، أو هدية تُهدى مع متاع الخيمة، كائنًا بلا وظيفة سوى أن يُستغل. فإن كان قادرًا على الإنجاب، فهو أداةٌ لزيادة الممتلكات، وإن كان قادرًا على الرعي، فهو مجرد يد عاملة، وإن كان للخدمة، فلا فرق عندهم كيف ينحني وأين. فإن عجزوا عن الإستفادة منه، فهو أقل قيمة من أي شيء آخر، يُمنحُ كما تُمنح الأشياء الرخيصة، مع تصريح صريح مقدَّس بالدوس على قبر جده. وإن اعترض على سوء المعاملة، فمصيره هو الجوع حتى الموت، أو النفي إلى الخلاء.
ثم، بعد كل هذا - بعد قرون من الاحتقار والذل والمهانة - يُقال له بصفاقة: “أنت الآن بيظاني، وعفا الله عما سلف.” بل ويُطلب منه أن يبجل هذا الامتياز، وأن يفتخر به، وكأن في ذلك خلاصًا! يا لوقاحة هذه الدعوى. ففي افضلِ الأحوال إنه مخلوق يُطمع في عقله ومشكوك في إرادته و وعيه، وهذا وحده كافٍ لانتزاع كل حق له في الوجود المستقل. فهو، في أعينهم، لا يستحق سوى اعتبارات مجحفة تجتمع كلها في كونها لا أخلاقية، ظالمة، ساذجة، وغير إنسانية.
أنه ذلك الفرانكنشتاين الذي صنعوه بأيديهم، ذلك الكائن المشوّه في وعيهم، المدفون في سردياتهم، والمثقل بعُقدهم. يحاول أن يتعرف على نفسه خارج إطاراتهم، أن يقترب منها، أن يعيّ مصالحِه الخاصة والجماعية، ويلبيّ احتياجاتها المادية والمعنوية، لكنه لا يجد مخرجًا، لأن المنظومة التي تحكمه تحتاج إليّه، تتغذى عليّه معنويًا باعتباره الآخر الأدنى، ذلك الذي يمنحهم عزاءً أمام نقصهم الذاتي. إن كان جاهلًا، فهم أكثر وعيًا. إن كان ضعيفًا، فهم أقوى، إن كان فاشلًا، فهم أنجح. وإن كان معدمًا، فهم أثرى. ثم، بعد أن يُشبعوا هذا الجوع المعنوي، يُعيدون إنتاجه ماديًا، يُقحمونه في السوق من جديد، بعدما غلقوا الأبواب في وجهه، حتى يبقى مطية التاجر وبضاعته، ولا يزال يباعُ ويشترى.
لكن الأمر لا يعزى بشكل مباشر إلى كراهية محضة، ولا حقدًا صريحًا، ولا حتى ضغينة واعية. اذ يقع الحرطاني في وجدان البيظاني في صلب منطقة التناقضات المعرفية والنفسية، وهناك من ضمنهم من هم عالقون في خوف تاريخي، وتربصٍ وجودي، تُسيطر عليهم هواجسٌ لا تتيح لهم تخيّل وجود الحرطاني خارج عالمهم، خارج وجدانهم. بل لأنهم لا يعرفون كيف يمكنهم أن يوجدوا بدونه. فالآخر شرط للتعرفُ على الذات، ويساوي في هذه الحالة سالب القيم التي ترفع من مكانة الانا وتمنحها الاعتراف. فهم أسرى لتراتبية قد لا تسعفهم مهاراتهم الحياتية ليتفوقوا خارجها أو ليكتسبوا أي قيمة اجتماعية بعيدًا عنها. فلا يمكنُ ان يوجد الحرطاني - المُتخيل - إلا داخل هذا النظام، وانفصاله مخالفٌ للسردية التي تشكل وعيهم. ما يعني أن عليه أن يتقن دور العبد، أن يتحملّ عذاباته في صمت، ويواصل شقاءه في درك المعاناة، لأن لهيب عذاباته يطهرهم من نواقصهم.
بالمقابل، لو كنتم مكانهم، لشعرتم بالخوف ذاته، ولرأيتم في صعودهم تهديدًا لمصالحكم ومكانتكم ومواردكم، ولقاومتم ذلك حتى آخر رمق. كان المخادعون من مثقفيكم سينظّرون لحرطنة البيظان، ويعيدون تعريف بياظ العين وكحاله، مع إعطاء الأسبقية، - دونّ شك - لكحال العين. كنتم ستدبّجون النصوص، وتصبغون القيم بأهوائكم، وتفبركون التاريخ، وستفعلون كل ذلك وأكثر للحفاظ على الوضع الذي يخدم مصالح الجماعة. لكن ما لن يكون لكم، بأي حال، هو الحق في منع البيظان من الدفاع عن حقوقهم، وعن مكانة تساوي مكانتكم على هذه الأرض وتحت هذه الشمس.
واليوم، في ظل الدولة المدنية، وما تفرضه شروطها من مساواة - وإن لم تتحقق كاملةً عبر النظم والقوانين ومع رسوخ الممارسات والاعتبارات العنصرية في التفاعلات الاجتماعية- يقتحم لحراطين أيضًا ساحات الفكر والسياسة، متجاوزين مسألة الاعتراف، والإنتماءات المتخلفة، بإصرارنا الدائم بأن شيئا لن يوقفنا عن التطلع والسعي نحو مستقبل أفضل للأجيال القادمة. لقد اختار آبائنا وأمهاتنا من قبلنا، طريق التفاوض، والحوار، والمناقشة. دفعوا السيئة بالحسنة، ومدّوا الخد الأيسر لمن صُفعهم على الأيمن، واخترنا، بوجدان جمعي حر لا يزال في طور التشكل، أن نكون مواطنين، وأن نندمج مع كل الشعوب التي تعيش على هذه الأرض، في دولة واحدة.
وقلنا، على ألسنة قادتنا التاريخيين: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، لنبني أمة واحدة متماسكة. لن يُطلب من البيظاني فيها أن يتخلى عن بياظته، ولا عن الدفاع عن مصالحه المصيرية، كما ليس مطلوبا من الحرطاني أن يذوب في البيظان، وله الحق الكامل في حماية مكتسباته الاجتماعية والسياسية. ولن يُطلب من لكور أن يتنحّوا جانبًا، تاركين البيظان ولحراطين وحدهم ليحملوا وزر تقرير مصير هذا البلد الذي يرتبط به مصيرنا جميعا.
وإلا!، فأين يقف لحراطين، إزاء مطالب لكور؟ وكيف نحدد موقفنا من قضاياهم السياسية والحقوقية والاجتماعية، وهي قضايا لا تقل قيمة وأهمية عن قضايا باقي الموريتانيين، وتؤثر على استقرار الدولة بشكل مباشر، وربما على وجودها ذاته؟ هل ننظر إليها من منظور التاريخ المشترك بيننا وبينهم، من واقع الجيرة الممتدة لعشرات القرون، من علاقات قرابية ضاربة في القدم، وأقل عاطفية واكثر وضوحًا وبالنتيجة: أقل ضررًا علينا اليوم وتأثيرا في ماضينا؟ أم أننا نستحضر وجوهًا أخرى من هذا التاريخ ونبني مواقفنا تبعا لتاريخ البيظان في المنطقة: الإغارات، إحراق المحاصيل، الخطف، والاستعباد؟
قلنا: لنكن أمة واحدة، تتشكل من رجال ونساء أحرار، متساوين في الحقوق والواجبات، لا ننحي لنستظل فيها تحت قبة أحد. يجمعنا ماضٍ، لسنا مجبرين على نسيانه، وليس لأحد أن يطلب منا ببساطة أن نمحوه، ونستهديّ في عتمة الحياة بتاريخه هو، أو أن نحلل الواقع انطلاقا من مصالحه وفهمه له. من يفعل ذلك، إنما يريد لنا أن نظل تابعين، أن نكون عبيدًا مرة أخرى، لكن تحت مسمى جديد: البيظان. وهنا، يتساءل الحرطاني: لماذا، بعد كل ما جرى؟
وإذا كان من إجابة تحضرني الآن، فهي أن البيظاني " الوطني " اليوم يسعى إلى فرض هوية لموريتانيا تكون بيظانية خالصة، ليس باعتبار البيظان فئة الغالبية وحسب، بل الفئة الوحيدة المعترف بها، التي يُروى تاريخها وحده، ويُحتفى به وحده. وهذا، في جوهره، أمر مرفوض جملة وتفصيلا.
وأخيرا، رغم أني أتحاشى استخدام بعض المفردات خارج سياقاتها الدقيقة، إلا أن اتصالها بالتاريخ يجعلها ضرورية هنا.
نحن ، لا نخشى تاريخنا، لأنه—بصورته التي يُراد لها أن تُروَّج—لا يمثل الضمير الجمعي لشعبنا اليوم، ولا يُختزل فيه تاريخ موريتانيا. نحن أبناء هذه الأرض، جزء منها ومن سيرورتها، ولذلك لا نجد في تجاوز ذلك الماضي عقدة ولا ضغينة. إنه ماضٍ لم نحصد منه سوى الألم، ولم نراكم فيه مكاسب حقيقية. أما البيظاني، فهو مشدود إلى الماضي برباط آخر، فهو لا ينظر إليه بوصفه سردية تاريخية، بل كامتداد لكيانه، كجزء جوهري من تعريفه لذاته. إن “الأنا الأعلى” البيظاني لا تكتمل إلا بوجود “آخر أدنى”، وليس هذا مجرد بُعد نفسي، بل هو جزء من التكوين العميق لهذا الوعي.
وعليه، على منظّري “بيظنة لحراطين” أن يدركوا أننا لا ننطلق من رغبة في الانتقام، ولا نسعى إلى تصفية حسابات التاريخ. نحن لا نطالب بحقوقنا المدنية والسياسية والاقتصادية بوصفها تعويضًا عن قرون من الاستعباد. ذاك الزمن قد ولى، ولا يمكن استرجاعه أو الاقتصاص منه. نحن نطالب بهذه الحقوق لأن العدالة ليست رهينة للزمن، ولأن الخير العام لا يخضع للمساومة.
نحن ندعوكم إلى أن تتجاوزوا ذاتكم، أن تسموا فوق إرث الاستعلاء والتمييز، أن تتحرروا من سطوة الماضي كما نتحرر نحن منه.
وليخجل منظّرو “بيظنة لحراطين” من أصداء أصواتهم، فلم يعد في الطرف الآخر من يصغي لهم، وعليهم أن يفهموا انه لا تُمحى الروابطُ كما تُمحى الخطوط من الرمال. بعضها يُعاد تشكيله، بعضها يُعاد تفسيره، لكن قليلًا منها يختفي تمامًا، وقد أدرك فرانتز فانون هذه الخاصية الشفائية للروح، فلاحظ أن أول ما يفعله المُستعمَرُ عندما يتجاوز ضعفه وخوفه من المستعمر، هو اعادة تشكيل وتعريف ذاته وفقا للوضع الجديد. وما بين تاريخٍ نحمله، وحاضرٍ نحاول صوغه أدعوا الى تأمل ما حاول ادوارد سعيد التعبير عنه بقوله. أن التاريخ ليس مجرد ماض نبتعد عنه، إنما هو ظل نتحرك في مداه