الصحافة تفرض نفسها تدريجيا على المسرح السياسي والاجتماعي في بلادنا، ولكن الجهات والأصوات الرافضة كثيرة.
فالمطلوب أن يعلم المعنيون والجميع إن أمكن، أن الصحافة مهنة مشرعة حرة، تقتضي التشخيص والمعالجة الحرة، لأي خبر أو موضوع، وذلك هو حيز مهنتنا النبيلة الشيقة والمثيرة في نفس الوقت.
وهذا يفرض وجود آراء متعددة وأذواق تحليلية متنوعة في وسطنا الإعلامي، أو ما يعبر عنه اختصارا، بالرأي والرأي الآخر.
لكن هذا لم يمنع من وجود توجه شعبي ورسمي بوجه خاص، محليا، متحفظ إلى حد كبير من الصحافة الحرة والآراء الحرة عموما.
قد يكون لبعض الصحفيين إسهام سلبي في تأجيج الرفض، لدى تلك الأطراف، التي لم تقرر نهائيا التعامل مع الصحافة الحرة، بالقبول والتعايش الإيجابي على الأقل.
وعلى وجه العموم، واقعنا الديمقراطي مهما كانت نواقصه والقوانين المعمول بها، تفرض محاولة التأقلم مع الصحافة الحرة.
وفي هذا السياق تحدث إشارات متعددة المفاد والمحتوى، سلبا وإيجابا.
فمثلا حادثة "إطفي إطفي" والخلاف الحاد العلني، بين أحد الزملاء الصحفيين والرئيس الحالي، ضمن مؤتمر صحفي رئاسي سابق، كان مؤشرا لعدم سعة صدر الرئيس في التعامل مع مختلف الطيف الصحفي، وربما يكون لسلوك الزميل المشار إليه دور في تأجيج ذلك الخلاف العابر، ولكني لمست خلاف ذلك في فرصة سابقة، جمعتني مع الرئيس محمد ولد عبد العزيز، ورغم صرامة خطي التحريري، وهو معروف النمط والجرس، عند القراء والمتابعين، إلا أن الجو كان هادئا ويدل على أن رأس هرم السلطة، ربما بدأ يقبل التعايش مع الصحافة، رغم حرية وجرأة بعض ممتهنيها، وذلك بعض المطلوب.
لكن من وجه آخر، يأتي تصريح الرئيس، بأنه هو الآمر رسميا، بوقف اشتراكات الصحافة المستقلة، في سياق تأكيد تخمر الموقف السلبي من الآراء الحرة في ثنايا بارونات الدولة العميقة.
بل وصل الأمر أحيانا، بولد عبد العزيز، حد السخرية الضمنية من الصحفيين، ودعوتهم لانتظار المرحلة الغازية، لإمدادهم بما يحتاجون إليه من الوسائل المادية، الضرورية لإقامة قطاعهم على أسس طبيعية، قد تمنح فرصة الاستقلالية والاستمرارية، ربما.
وللتذكير، طبيعة المهنة الصحفية، في بعدها القانوني النظري، الأصلي، تمنح الصحفي فرصة الحرية كاملة.
فتعريف الصحفي في قانون الصحافة الموريتاني "الشخص المخول بالحصول على الخبر ومعالجته دون ضغوط أو مخاطر"، إلا أن الواقع مختلف عن ذلك المضمون المهني النظري، المفقود المنشود.
فعموما الصحافة في بعض صورها وممارساتها، يجنح غالبا ممتهنوها، لتحويل جرائدهم أو مواقعهم الالكترونية، إلى دكاكين للإعاشة الشخصية والاسترزاق الذاتي، وأما ما تقتضيه المهنة، قانونيا ومهنيا وأخلاقيا، من صرامة في المعالجة الإعلامية، فليس هو الأولى عند الكثير، من زملائنا محليا، للأسف البالغ.
فلو نجحت الصحافة، كمنبر رقابي مشرع صارم مستقيم، لارتعش السارق العمومي، قبل أن يعتدي على المال العام، ولربما تمكنا من استرداد أو متابعة على الأٌقل الكثير من ملفات الشأن العام، وخصوصا في باب التحايل الواسع على المال العمومي والشأن العمومي، منذ بزوغ مشروع دولة موريتانيا وإلى اليوم.
ولو كانت الصحافة صارمة، لحمل مسؤولو الدولة وأفراد الشعب، وبوجه خاص أعيان المجتمع المستفيدون من اللعبة، الأوساخ على رؤوسهم، حرصا على النظافة، بعدما أصبحت تهددنا الأوساخ، في قلب العاصمة أولى داخل الوطن.ولو كانت الصحافة كمرفق رقابي وتحسيسي معنوي، صالحة صارمة، لصلحت الصحة والتعليم، وهما قطاعان منذ سنوات في قاع الترنح والعجز والفشل غالبا.
وباختصار، لو كانت الصحافة على الوجه الأمثل المطلوب، لارتفع منسوب الوعي وتغير الحال نحو الأحسن، ولو تدريجيا بإذن الله.
لكن الصحافة الحرة، تكتفي غالبا بالتزلف للمتغلب، سواءً كان حاكما أو تاجرا، أو صاحب جاه أو تأثير من أي شكل، وتترجى الحصول على منافع، بطعم الخيانة والتنازل الفاضح الجلي عن جوهر مهنتها.
لا غضاضة في الرغيف من غير شروط مذلة أو مخلة حتى، لكن ما يجري غالبا هو المقايضة والضياع، على حساب المهنة ومصالح الدولة والشعب.
الكثير من الجهات تضغط حتى باتجاه الشكوى والسجن أحيانا والحرمان طبعا، من أجل إجهاض مشروعنا الإعلامي الواعد، رغم كل النواقص والثغرات والمآخذ.
وما زال الإقبال كبيرا، على عموم المشهد الإعلامي المحلي، والمستقل بوجه خاص، إلا أن مؤشرات ضعف المستوى والتسويق الهزيل والمصادرة الذاتية، تتبدى من هنا وهناك، في حيز ما هو موجود من إعلام حر، وهو في الواقع، مقيد بالحرمان والتهديد والضعف الذاتي.
وذلك لعمري جدير بالمراجعة والمعالجة قبل فوات الأوان، عسى أن نمتلك يوما إعلاما جريئا متوازنا إيجابيا، قادرا على الأداء الحسن ودفع الأمور باتجاه الإصلاح، وبسرعة بإذن الله.
وضمن عودة بسيطة لتوضيح مفهوم ورد في السياق، أقول، المصادرة الذاتية، أعني بها، إتاحة الفرصة للصحفي، ليمارس دوره بحرية، دون قيود أو شروط، إلا أنه بسبب ما، خوفا أو طمعا، أو غيرهما، يجنح لمصادرة نفسه بنفسه
بقلم عبد الفتاح ولد اعبيدن