كان بالمدينة فيما مضى ، مقهى تسمى بـ < الفضا > ، وكنت أزورها عن طيب خاطر ورضى ، كي أفر من أسئلة الإستنكارْ ، وأهرب من بطالة ساقتها إلي الأقدارْ ، وزادت من قسوتها ثلة من اليمين وثلة من اليسارْ ، ... وحدث ذات يوم من الأيامْ ، أن دخلت إلى هذه المقهى المليئة بذوي الأفهامْ ، فوجدت الناس فيها من الخلف ومن الأمامْ ، يحيطون برجل في مقتبل الأيامْ ، ويطلبون منه حكاية كحكايات < ألف لامْ > ، لكنه يصر على الرحيلْ ، بدعوى أنه سقيم عليلْ ، وأنه لا يقوى على الوقوف لوقت طويلْ ، ... فقلت لأحد أصحابِي ، : من هذا الرجل الرث الثيابِ ، الطويل الكعابِ ، ؟؟ ولماذا الناس به يحيطونْ ، ولحكاياته هم يطلبونْ ، وبحلقيته هم يرابطونْ ، ؟؟؟ فقال : << هذا ابن أبي الرعايَهْ ، صاحب الألف حكاية وحكايَهْ ، وهو شاعر وقصاص مسكينْ ، ولولا هذا الزمان الثخينْ ، لكان ابن أبي الرعايَهْ ، ملك له ألف ولاية وولايهْ ، >>... فلما انتهى صاحبي من الوصف الكاملْ ، أشرت على الغريب المتثاقلْ ، بأن قل ما أنت قائلْ ، واحكي لنا ومنا المقابلْ ، ... فسر وجهه وابتسمْ ، وقال : ** يرحم الله من فهمْ ، أقبلوا علي واسمعوا ، وتمعنوا في الكلام وتخشعوا ، : ... إنه لما أحاط بي التعب والأرقْ ، من كثرة الشغل والقلقْ ، قررت السفر بعيدا عن الهمومْ ، واخترت الإستجمام في مكان غير معلومْ ، حتى أنسى صداع المدينة المشؤومْ ، ... وهكذاأنخت الرحال بقفارموحشهْ ، وبدأت بتعداد الأيام المنعِشهْ ، فلما كان اليوم الخامسْ ، وبينما كان كل من في الخيمة راقد ناعسْ ، أردت كعادتي الجري في الظلام الدامسْ ، لتقوية عضلات جسم يابسْ ، فارتديت الملابس الرياضيهْ ، وخرجت للجري بنفس راضيهْ ، فلما شرعت في حركات القفز الهوائيهْ ، والتدرب على تقنيات الدورات المائيهْ ، تهافت إلى مسمعي كلام غريبْ ، ودبَّ إلى نفسي خوف مريبْ ، زاد من حدته صمت القفار المهيبْ، فقلت : سأتتبع الصوت بحذرْ ، وأرى اليقين من غير رد البصرْ ، لأعلم إن كان الصوت للجن أم للبشرْ ، لكن العجب العجيب العجابْ ، والأمر الذي يخرج الذات عن جادة الصوابْ ، ويترك النفس حبيسة في سجن الشك والإرتيابْ ، هو ما رأته عينايَ ، وما سمعته أذنايَ ، : ... مجموعة من الأرانب يحملون الأحجارْ ، ومجموعة أخرى من الثعالب عن اليسارْ ، يتراشقون الحجارة قبل طلوع شمس النهارْ ، َ!!! فأقبلت نحوهم بلا سابق إعلانْ ، وسألتهم ببراءة الأطفال والصبيانْ ، إن كانوا من الجن أم ممن مسخوا من بني الإنسانْ، ... فردوا بصوت غليظ واعدْ، وقالوا في صف واحدْ ، : << نحن حيوانات أنطقها اللهْ
، وإنا نناشدك الحكم بما أنزل اللهْ ، وعهد علينا أن نرضى بالحكم ولا نرفع الجباهْ ، >> ، فقلت لهم وقد إزدادت غربتي ، وابيضت من الخوف لحيتي ، : يا معشر الثعالب والأرانبْ ، قبل الحكم في هذا الخصام النـَّـاشِبْ ، حبذا لو إصطف كل واحد منكم في جانبْ ، وليلزم الصمت كل فريقْ ، حتى يسمع دوره في التحقيقْ ، وإلا فلن نصيب الحق في الطريقْ ، ... فأطرقوا جميعا بالرؤوسْ ، وأصبحت بينهم كالمهووسْ ، وأدركت حقا أنني أكبر متعوسْ ، لكنني جمعت همتي ، وأزلت البياض عن لحيتي ، وقلت لهم مزيحا عني كربتي ، فلتتكلموا يا معشر الأرانبْ ، واعلموا من غير تذكير الحاضر والغائبْ ، أن اللعنة كل اللعنة على الكاذبْ ، فأقبلت أمامي أرنب عجوزْ ، وقالت : << يا أيها الرجل المهموزْ ، ... حكايتي مع رهط الثعالبْ ، بدأت منذ القرن الهاربْ ، فلقد كنا نعيش في أمن واطمئنانْ ، وكانت أرضنا هذه تنبت الياقوت والمرجانْ ، فهي فضلا عن كونها مكانا للإستجمامْ ، تحمل آثارا تعود إلى ملايين الأعوامْ ، وكان كل يوم من الأيامْ ، يأتي إلى ديارنا ضيف من الكرامْ ، فيستجم في فرح ونشاطْ ، ويدخل إلى كل قصر وبلاطْ ، فلا يسمع لوما ولا عتابَـا ، وإنما يجد أخوة وترحابَا ، فأمسى الكرم عندنا معروفـَا ، وأضحى الجود بنوادينا موصوفـَا ، .... وحدث ذات مرَّهْ ، أن زارنا ثعلب ذي " مفـَـرَّهْ " ، فساومنا على الأرض والبلادْ ، وقدم لنا الذهب مقابل البيع والإبتعادْ ، فكانت " ألف لا " منا جوابْ ، وواعدنا على الرحيل ثم الإيَّابْ ، ... وعاد ومعه رهط من الأصحابْ ، فقابلناه لسماحتنا بالترحابْ ، ومر عام ولم يرحلْ ، وفي كل يوم كان عن طبيعة الأرض يسألْ ، فلما طال به المقامْ ، أخذ هو وجمع الثعالب اللئامْ ، ينقض على ذكورنا ونحن نيامْ ، فلما تنبهنا لأمرِهْ ، وعلمنا جليا خطورة مكرِهْ ، قاومناه بشِـدَّهْ ، وواجهناه بحدَّهْ ، فنادى بأعلى صوته رفقة الأصحابْ ، أن فليهبط كل ثعلب من أعلى الغابْ ، فقد مضى زمن الفبركـَـهْ ، وحان وقت المعركــَهْ ، ...فقدمنا الشهيد تلو الشهيدْ ، وعومل الأسير منا معاملة العبيدْ ، وتمت مصادرة أراضينا بالعصي والحديدْ ، ... وكان أن عوى ذئب بأعلى الجبلْ ، فقلنا هذا الذئب الذي بأرضنا قد نزلْ ، سنحتكم إليه بلا حروبْ ، لبراءته من دم يوسف ابن يعقوبْ ، فأشار علينا الذئب باقتسام الأرضْ ، حقنا للدماء وصونا للعرضْ ، فقبلنا خطة السلامْ ، وما درينا لجهلنا بالأيامْ ، ان الذئاب والثعالب من فصيلة واحدهْ ، والأيام على ذلك والله شاهدهْ ، ... وهكذا ياسيدي : ما بين ليلة وضحاهَا ، صار أسفل أرضي وأعلاهَا ، ملكا للذئاب والثعالبْ ، فمن يكون في صف الأرانبْ ، ... >> ، فلما انتهت الأرانب من تقديم الشكوَى ، أشرت إليها أني لا أريد منها لغوَا ، وقلت للثعالب وقد اتخذوا من الغمز والهمز لهوَا ، : أسِرّوا إلي النجوى وتكلمُّـوا ، واعلموا قبل أن تتقدُّموا ، أن الظالم بالحق عندي يهزمُ ، ... فما هي إلا لمحة من البصرْ ، حتى أخذ كل واحد منهم حفنة من الحجرْ ، والتفوا حولي بسرعة تفوق سرعة النظرْ ، فسمعت صوت أرنب العواقب قد بصرْ ، يجول الآفاق قائلا : الحذر الحذرْ ، ... فقلت لهم بعدما رأيت هول الخطرْ ، : يا معشر الثعالبْ ، ما هذا الأمر ذا الغرائبْ ، إن كانت طريقتي في الحكم تجعل الكل غاضبْ ، فأنا اليوم أو غدا ذاهبْ ، فلم هذا اللف والدوران عن اليمين واليسارْ ، ولماذا هذه الأيادي تحمل الأحجارْ ، ؟؟!! والله لو كنت أعلم الغدر من البدايهْ ، لما اخترت البقاء إلى النهايهْ ، وإني وأنتم تعلمونْ ، وأنتم الذين دعوتمونْ ، ما أريد إلا إصلاحا به تنعمونْ ، .... فما إن أنهيت كلامِي ، وطرحت ما عندي من الإستفهامِ ، بأسلوب الخائفين من اللئامِ ، حتى أقبل أمامي ثعلب أعورْ ، وكشر عن أنياب حادة تشبه الخنجرْ ، وقال بصوت يحاكي صوت الأسد حين يزأرْ ، << إعلم يا أيها الأهبل الأحمقْ ، أن القوة هي الحكم الأسبقْ ، والأرض أرضنا بالقوَّهْ ، أخذناها بالمكر والفتوَّهْ ، وكل من حاول الفصل بيننا دفنـَّـاه من غير حول ولا قوَّهْ ، والمثل يقول يا سيد " أخوَّهْ " ، من تدخل فيما لا يعنيهْ ، سمع ما لا يرضيهْ ، فإما أن ترحل جميلا مع التنويهْ ، وإما أنتدفن ذليلا مع التشويهْ ... >>.
... فوليت الدبر عائدا إلى الخيامْ ، وعاهدت نفسي بإحكامْ ، على عدم الفصل في أي خصام ْ ، ... وبينما أنا في طريق العودة والرجوعْ ، لفت انتباهي صوت ممزوج بنبرة البكاء والدموعْ ، يقول صاحبه وكأنه حاكم مخلوعْ ، : {{ يا أشباه الرجال ولا رجالْ ، تفرون من الخصام وأنتم في حلم وخيالْ ، فكيف سيكون بكم الحال إذا تغيرت الأحوالْ ، ونادت القضية أن هبوا للقتالْ ، فهل ستكون الأهبة والتكبير والتهليل جوابا للسؤالْ ،أم سيبقى أشباه الرجال أشباها ولا رجالْ ، ؟؟؟ }}،