“مائة يوم من العزلة”، ربما تصلح عنواناً لما انصرم من حكم الرئيس محمد ولد الغزواني، على غرار ما ألهمته الواقعية السحرية أسطورتهَا غابريل غارسيا ماركيز.
الرجل المحتبي في قصره الأزرق لا يبدو مكترثا بتغيير نظام الحكم، فرجاله المحيطون به، كسوارٍ بمعصم، هم بأعيانهم بطانة و حاشية الجنرال الأرعن محمد ولد العزيز. و الفساد و استغلال النفوذ و الامتيازات غير المستحقة ما زال سوسها ينخر هيكل الدولة الهزيل، و تواتر الرأي العام على موقف ما (كإدانته لقرار سيدي ولد سالم المجحف في حق الطلاب) لا يقدم أمراً و لا يؤخره، فالإجماع الوطني و استطلاعات الرأي و نبض الشارع إنما تهمّ في العادة من كان حكمهم باختيار محكوميهم و ليس بالقهر و الغلبة، كما هو حال حكامنا العسكريين.
لا شيء تغيّر فما زالت صوارم القمع اللهذمية مسلطةً على رقاب أصحاب المظالم، والهراوات تعلو الهامات، و الفأس تسحق الرأس، و العصا تقمع العصيان.
لا شيء تغيّر إلا أن من كان يذبح الوطن بشفرة حادة خَلَف من بعده صديق له يذبحه بمدية باردة.. صديق علّق عليه المواطنون آمالاً عراضاً غير أنه يقتل في كل يوم عرقا نابضاً في جسد هذا الأمل، الذي سيستحيل مع الأيام جثة هامدة.
باستثناء بعض الشكليات، فلا يزال المفسدون يحتلون صدر المجلس في إدارة ولد الغزواني، و الصفقات تمنح لنفس من كانوا يحصلون منها على امتيازات لا يستحقونها، و التعيينات ما زالت زبونية و محاباة، و الفاسد الذي يقال من منصب تتم ترضيته بمنصب آخر، و “المصلح الجديد” لا يتورع من تعيين دمية باربي على إدارة شركة مثل “سوماغاز”، و فارس التنصت على مكالمات المواطنين و الاطلاع على عوارتهم النذل احميده ولد اباه يقبل و يدبر في كواليس القصر الرئاسي، و كأنه سعيد ابن العاص في بطحاء مكة.. و التراجع عن ظلم المطاردين السياسيين يخضع لاعتبارات أخرى، تجعل من العدالة و الإنصاف شيئاً آخر.
إنه لا يلوح في الآفاق غير إرهاصات نظام قبلي.. فلا أحد يشمّ في قرارات الرجل نَفَس إصلاح أو انتقاء لذوي الكفاءات و الأهلية إلا من أنف بينوكيو.
و لكن الكيل طفح بقمع الطلاب بهذه الوحشية لأنهم طالبوا بقسط ضئيل من التعليم، الذي هو حقٌ لهم كالماء و الهواء.. الكيل طفح لأن الوجه الدميم لهذا النظام ينكشف يوماً بعد يوم.
لقد انتظرنا مائة يوم بأيامها و لياليها، و ربينا الأمل كما يربيه السجناء، و سقيناه رحيق التفاؤل، فلم نحصد غير لطم الخدود و شق الجيوب، على حظ وطن عاثر، وطن تتعاوره أحذية العساكر الخشنة، و تتقاذفه أرجل الفاسدين ككرة تتنزّى فوق كف عفريت.
في هذه الفترة، لا موالاة و لا معارضة.. فالدائرون في فلك النظام مقسمة قلوبهم بين رئيس سابق، يتربص الدوائر بالرئيس الحالي، الذي ترتعد منه فرائصه فرَقاً. أما المعارضة فيكفيها أنها اجتمعت في مكتب أنيق من خشب الأبنوس، في القصر الرئاسي، بـ “رئيس دماثة أخلاقه و سماحة سجاياه مضرب مثل”.
نجوع و نظمأ و نضحى فيقولون: أخلاق الرجل عالية.!
و تنقطع الكهرباء ساعات، فيخجلون من أن يدينوا ذلك، لأن الرئيس خلوق، خجول كعذراء في خدرها، فلا ينبغي تعريضه للإحراج.. و يقتلنا تجار الأدوية المزورة، فنشير إليهم بالبنان، فلا يعاقبون، لأن أخلاق الرئيس العالية تمنعه من معاقبة الجناة، و الضرب على أيدي البغاة.
يبدو أننا لا نحتاج حكامة رشيدة، و لا نزاهة في التسيير، و لا إبداعاً في الأفكار التنموية، و لا تطوراً في الاقتصاد، و لا تكافؤاً في الفرص، و لا توزيعاً للثروة، و لا فصلا للسلطات، و لا حرية في التعبير و لا روّية في التفكير.. لا نحتاج مسؤولين أكفاءً و لا موظفين أشرافاً، و لا نوابا وطنيين، و لا صحفيين ملتزمين.. لا نحتاج نظاماً جمهورياً و لا مجتمعاً متساوياً، و لا دولة قانون.. فحين نجوع أو نظمأ أو نعرى فسنأكل و نشرب و نكسى من “أخلاق محمد ولد الغزواني العالية”..
حفظ الله لنا “أخلاقه”.