بيروت- بعد نحو 9 أشهر من تكليفه بتشكيل الحكومة اللبنانية، اعتذر سعد الحريري أمس الخميس عن المهمة التي بدت شبه مستحيلة وسط استفحال الخلاف بين أطراف المشهد السياسي.
ووفق كثيرين، كانت الفترة الماضية مجرد محاولة لتأجيل انكشاف حقيقة الانسداد السياسي، الذي يعني إعطاء الشرعية لفوضى الشارع.
ولكن هذه الفوضى تجلت بوادرها في الخسارة المدوية التي سجلها سعر صرف الدولار بالسوق السوداء، حيث قفز سعره من نحو 19 ألفا إلى نحو 21 ألف ليرة، وما تبع ذلك من تحركات شعبية محدودة وقطع بعض الطرقات.
وخلال الأشهر الماضية فشلت جميع المبادرات الهادفة لردم الهوة بين الرئيس المكلف سعد الحريري ورئيس الجمهورية ميشال عون، وجرى إجهاض محاولات التسوية المحلية والعربية والغربية، مما دفع بعض الدبلوماسيين للتعبير عن استيائهم.
وبعد أن أعلن الحريري أمس الخميس، اعتذاره عن المضي في مهمة تشكيل الحكومة، قال المكتب الإعلامي في رئاسة الجمهورية إن الحريري لم يكن مستعدًا للبحث في أي تعديل على مقترح تشكيلة قدمها في وقت سابق وأمهل الرئاسة 24 ساعة للرد عليه.
وقد تقاذف فريقا رئيس الجمهورية والرئيس الحريري المسؤولية عن عرقلة تشكيل الحكومة.
تقاذف المسؤولية
ويعتبر نائب تيار المستقبل (برئاسة الحريري) مصطفى علوش، أن الحريري ناقش مطالب عون على مدار نحو 9 أشهر، وعرض عليه تشكيلات متعددة لكن عون كان دائما يرفضها.
وقال للجزيرة نت إن "الدستور واضح، من يؤلف الحكومة هو رئيسها المكلف وليس رئيس الجمهورية، والمشكلة الفعلية أن الأخير لا يريد الحريري رئيسًا للحكومة".
ووفق علوش، فإن فريق عون يتحمل مسؤولية التعطيل وما وصل إليه لبنان، مشيرًا إلى أن خيارات الحريري ستكون مفتوحة بعد خطوة الاعتذار، و"إذا جرى تكليف رئيس يحظى فقط برضا عون، سينتقل الحريري حُكما إلى جبهة معارضة الحكومة".
وينفي علوش أن تكون السعودية شكلت عقبة أمام الحريري، مشددا على أن "من كان يرفض التشكيلات هو عون وليس أحد سواه".
لكن العضو السياسي في التيار الوطني الحر (برئاسة جبران باسيل)، وليد الأشقر يرى أن مشكلة الحريري تكمن في عجزه عن توفير غطاء سعودي، وأنه يتذرع بالخلاف مع عون لتحميله مسؤولية التعطيل.
ويضيف أن الحريري طوال رحلته كان يريد أن يحظى بثقة أكبر كتلة مسيحية برلمانية التي يرأسها باسيل، من دون أن يلتقي به أو يتشاور معه.
وقال الأشقر -للجزيرة نت- إن الحريري فرض خطوطا حمراء على التشكيلة الحكومية، مقابل منع عون من ممارسة حقه الدستوري بالمشاركة في اختيار الوزراء.
ما بعد الاعتذار
وعقب اعتذار الحريري الذي شكل منعطفًا مفصليًا للأزمة، قفزت التساؤلات عن السيناريوهات السياسية التي يقبل عليها لبنان، ويجمع المحللون على أن المشهد يبدو قاتمًا للغاية.
يستغرب الكاتب والباحث بالشأن السياسي سعد محيو عدم نجاح كل الضغوط الدولية والإقليمية، وكان آخرها تسليم سفيرتي فرنسا وأميركا رسالة مشتركة من حكومتيهما، تؤكد على ضرورة تشكيل حكومة جديدة في لبنان.
ويعتبر أن عون تاريخيًا يمتهن الرفض، حتى ولو كان البلد منهارًا، ويضيف أن الحريري استمر في ترحاله بين الدول في وقت تتزايد فيه معاناة اللبنانيين، من دون أن ينجح في كل محاولاته.
ويرى محيو -في حديث للجزيرة نت- أن أزمة لبنان السياسية تفاقمت بسبب "أفراد" استطاعوا أن يتسببوا بالخراب نتيجة خلافتهما، وأن إدارة الانهيار كانت ممكنة مع رئيس جمهورية غير عون ورئيس مكلف غير الحريري.
ويصف ما جرى بالظاهرة الغريبة، بعد أن عجزت دول عظمى أن تدفع مسؤولي بلد صغير مثل لبنان لتشكيل حكومة.
الحريري وباسيل
في المقابل، يذهب الكاتب والسياسي اللبناني جان عزيز إلى أن كلًا من الحريري وباسيل يتحملان مسؤولية ما أوصل البلاد إلى هذا الحدّ من الاستعصاء السياسي، ويصف الخلاف بينهما بـ"مسرحية النزاع"، لتحقيق أهداف محددة لهما وهي: شد العصب المذهبي والطائفي، وتعويض الخسائر التي أصيبا بها منذ حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، ومحاولة تخطي الاتهامات التي وجهها الحراك الثوري لهما، والتمهيد لانتخابات نيابية.
وسبق أن عمل جان عزيز مستشارا سياسيا وإعلاميا للرئيس عون.
ويقول إن سلوك الحريري وباسيل حظي بقبول ضمني من رئيس الجمهورية ومن حركة أمل وحزب الله، وكل منهم لحساباته الخاصة، مما أدى إلى فشل مسار تشكيل الحكومة.
وبناءً على تجربة تحالفهما بانتخابات 2018، يتوقع عزيز بعد انتخابات 2022 أن يذهب فريقهما لعقد تسوية جديدة بهدف تقاسم الحكم.
إيران وأميركا
ويعزو عزيز فشل الحراك الدولي تجاه لبنان إلى أن المتحركين من الأطراف الدوليين، هم من خارج المعادلة الدولية الوحيدة القادرة على التأثير بالساحة اللبنانية، أي واشنطن وطهران، فهما القادران معا على التأثير الفعلي بالمعادلة اللبنانية.
ويرى عزيز أن أميركا وإيران لا مصلحة لهما في تغيير الواقع اللبناني قبل بلورة مصير مفاوضاتهما النووية، لذا كانا بموقع المتفرجين أو المتريثين، في حين كل المحاولات الدولية الأخرى كانت عاجزة عن فرض متغير جديد في لبنان.
ورغم اعتذار الحريري، تستمر المبادرة الفرنسية على المستوى الإنساني مرحليا، وهو ما عبرت عنه باريس بإعلان موعد لعقد مؤتمر دعم للبنان في الرابع من أغسطس/آب المقبل.
وعلى المستوى السياسي، يرى جان عزيز أن المبادرة الفرنسية كانت تعيش حالة المراوحة حتى قبل اعتذار الحريري، ويبقى مصيرها مرتبط بنضوج العلاقة الأميركية الإيرانية.
خطر الانهيار
داخليًا، يعتبر جان عزيز أن ثمة لاعبين يسعون لإعادة رسملة فردية للأحداث على حساب البلد، و"عليه يمكن انتظار كل المصائب".
ويتوقع -وفق معلوماته- أن يسارع عون إلى تحديد موعد للاستشارات النيابية، وأن يسعى لتكرار تجربة تكليف رئيس حكومة حسان دياب، أو الرئيس نجيب ميقاتي في 2011، أي فرفض تشكيل حكومة من لون واحد.
بالمقابل، سيسعى الحريري مع كل الفريق السني الذي يمثله إلى خوض معركة "ميثاقية التسمية"، بمعنى أن يشاركوا بالاستشارات من دون أن يسموا بديلا عن الحريري.
وعليه، "سيكون لبنان أمام حالة متمادية ومستشرية من الفراغ والانهيارات"، بحسب عزيز.
من جهته، يتوقع سعد محيو ألا يمانع الرئيس عون أن يكمل العام الأخير من عهده بتفعيل حكومة تصريف أعمال، "ما دام أنه يعقد اجتماعات لمجلس الدفاع الأعلى، الذي تحول ضمنًا إلى حكومة، وصار أساسًا بإدارة الدولة".
كما يرجح استمرار انسداد الأفق السياسي وأن يستشري إفقار اللبنانيين وتدهور لبنان كلما ارتفع سعر صرف الدولار لليرة، محذرًا من خطر الفوضى في الشارع
وكالات