حدث أن يسمع الواحد منّا كلاما عن عذاب القبر وأهوال القيامة والحساب والعذاب، فيأتيه الشّيطان ليقول له: أنت معذّب لا محالة، لا أمل لك في النّجاة فلا تتعب نفسك، وما دمت ستعذّب في قبرك ويوم القيامة، فاستمتع بدنياك طولا وعرضا، وافعل ما بدا لك.. وربّما يسمع العبد لنزغات الشيطان ويطيع نفسه الأمّارة بالسّوء، فيقنط من رحمة الله وييأس من عفوه وفضله، وينسى أنّ دخول الجنّة أسهل من دخول النّار، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك” (متفق عليه).
الشّيطان هو من يبغّض إلينا لقاء مولانا الحنّان المنّان الرؤوف الرّحيم، ويقنّطنا من رحمته التي سبقت غضبه ووسعت كلّ شيء.. الشّيطان هو من يصوّر لنا أنّ الموت موعد مخيف ومرعب، وأنّ القبر موطن للعذاب لا غير، وأنّ القيامة موعد للفزع والعذاب فقط.. وينسينا أنّ رحلة الرّحيل عن الدّنيا ستكون أروع وأمتع رحلة للعبد المؤمن الذي يحبّ لقاء الله ويتشوّق لرؤية وجهه الكريم. يقول حبيبنا المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام-: “من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه”.. الله -جلّ وعلا- يتحبّب إلينا بالنّعم، ويتودّد إلينا بعفوه ومغفرته بالليل والنّهار ويبسط إلينا يده لنفرّ إليه من الدّنيا ومن أنفسنا ومن الشّيطان ونحتمي به: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم)).
الرّحيل عن الدّنيا سيكون أمتع وأجمل وأسعد رحيل، عندما يحبّ العبد مولاه ويطلب رضاه.. عندما يقترب موعد الرّحيل، تبدأ البشريات ترد على العبد، فيجد رقة في قلبه وسعادة في روحه وهدأة في باله، ويزداد استعدادا لأجمل وأعظم لقاء، فيختم حياته بطاعة الله، وربّما يوفّق لعمل صالح يقبض عليه؛ ربّما يموت وهو يصلّي لله، وربّما يموت وهو يحمل الخير والصدقات لعباد الله، وربّما يقبض وهو يدخل السرور على قلب أمّه أو قلب أبيه.
عندما تحين لحظة الرّحيل، لا يشعر العبد المؤمن إلا وقد احتدّ بصره ليرى ما لم يكن يراه من قبل.. يرى منظرا يخفق له القلب فرحا، يرى ملائكة من أجمل ما خلق الله، بيض الوجوه بيض الثياب، يجلسون منه مدّ البصر، معهم ملك الموت -عليه السلام- وهو يحمل البشرى في وجهه المنير.. يرى العبد المؤمن هذا المنظر البهيج، فيبتسم ولو استطاع الكلام لقال: “فزت وربّ الكعبة”.. يتقدّم ملك الموت إلى العبد المؤمن ويقف عند رأسه، ليزفّ إلى روحه بشرى طالما عمل لها العبد المؤمن، طالما استعدّ لها بمحافظته على صلاته وتلاوة كلام ربّه وبرّه بوالديه وحرصه على لقمة الحلال وعفّة لسانه عن أعراض النّاس وبصره عن عوراتهم. وطالما استعدّت لها المؤمنة بحرصها على الحجاب الواسع وحفظها لعفّتها وأنفتها وإحيائها.. يسمع العبد المؤمن ملك الموت وهو يخاطب روحه قائلا: “أيتها النفس الطيّبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان”؛ فيمتلئ العبد فرحا وسعادة. تخرج الروح كأسهل ما يكون، كما تخرج قطرة الماء من فم السّقاء، فتحملها الملائكة وتضعها في كفن الجنّة وحنوطها، وتفوح منها رائحة كأطيب مسك عرف في دنيا النّاس.. وتبدأ رحلة الصّعود إلى السّماء، فلا تمرّ الروح على جماعة من الملائكة فيشمّون ريحها الطيّبة، إلا سألوا: ما هذه الروح الطيّبة؟ فتجيب الملائكة التي تشيّع الروح: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمّى بها في الدّنيا.. وهكذا حتى تصل الروح إلى السّماء الدّنيا، فتستفتح لها الملائكة فيفتح لها، ويشيّعها الملائكة المقرّبون في تلك السّماء إلى السّماء الثانية، وهكذا تشيّع الرّوح في موكب عظيم بريح طيّبة، حتى تصل إلى السّماء السّابعة.. في هذا الوقت يكون الجسد الفاني في الأرض يغسّل ويكفّن ويشيّع. النّاس مشغولون بالجسد الفاني، وروح العبد المؤمن تصعد في أعظم رحلة وأمتعها وأسعدها.. عندما تصل روح العبد المؤمن إلى السّماء السّابعة تصمت الملائكة جميعا انتظار أمر الله، فيقول الربّ الرحيم سبحانه: “اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض”.. أعظم بشرى في رحلة الموت تسمعها روح العبد المؤمن ليس في الأرض، وإنّما في السّماء السّابعة، وليس من ملك من الملائكة، ولا من ملك الموت، بل من الرؤوف الرحيم، فيا لها من كرامة! تسمع روح العبد المؤمن البشرى، ثمّ ترجع في موكب بهيّ عظيم، حتى تصل إلى القبر، فتلتقي بالجسد، فيضمّ القبر الجسد ضمّة رحمة وشفقة، مثلَ ضمّة الأمّ لولدها.. ثمّ يأتي العبدَ المؤمن ملكان يحملان البشرى في وجهيهما، فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: ربّي الله، بكلّ ثقة وثبات، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، بكلّ ثقة وثبات، ثمّ يسأله الملكان: ما هذا الرّجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. عند ذاك، يسمع العبد بشرًى جديدة تملأ قبره نورا وحبورا وأنسا وسعادة وسرورا.. يسمع مناد من السّماء ينادي: “صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ”.. عبد ربّما ما كان يسمع به غير قليل من النّاس، تأتيه البشرى من السّماء وهو في قبره.. ليتحوّل القبرّ بعدها إلى أجمل وأهنأ وأسعد مسكن تحت الأرض، ويُمدّ فيه للعبد مدّ البصر، ويفتح له فيه باب يأتيه منه من روح الجنّة وطيبها.. لكن هل يترك وحيدا في قبره؟ لا. أبدا. يأتيه عمله الصّالح في صورة رجل حسن الوجه حسن الثياب طيّب الرّيح، فيقول للعبد المؤمن: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول العبد المؤمن للرّجل: ومن أنت فوجهك يبشّر بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصّالح؛ فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح للعبد باب من الجنة، فإذا رأى ما في الجنة، قال: ربِّ عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي.. يستعجل دخول الجنّة حتّى يجتمع بأهله وما أعدّ الله له من نعيم، فيقال له: اسكن، نم نومة العريس أو نومة العروس، فتمرّ به مرحلة القبر سريعا ولو كانت ألف سنة، تمرّ كأنّها أسعد ليلة في حياته، قضاها في روضة من رياض الجنّة.
يتبع بإذن الله