عندما لا يكون لديك مشروع تصبح مجرد أداة في مشاريع الآخرين. هذا هو الوضع العربي الآن باختصار. لقد بات العرب يتباهون بتبعيتهم لهذا الفريق أو ذاك دون خجل أو وجل.
فهذا يتغنى بأمجاد إيران وفتوحاتها في المنطقة، وذاك يصفق لتركيا، وهذا يتباهى بعلاقاته مع إسرائيل وبقية القوى الكبرى. وعلى الرغم من أنهم يسمونها المنطقة العربية، إلا أنظمة تلك المنطقة وشعوبها غدت مجرد أجراء لدى الذين يتنافسون على هذه البقعة الاستراتيجية. ولا عجب، فهناك الآن بالإضافة إلى القوى الغربية ثلاثة مشاريع إقليمية لا تخطئها عين في هذا الجزء من العالم، المشروع الإيراني والمشروع الإسرائيلي والمشروع التركي. وهي تتنافس فيما بينها على تقاسم المنطقة. وليس العيب طبعاً في أصحاب تلك المشاريع، فمن حق الدول أن تملأ الفراغ عندما تجده في جوارها، بل المشكلة في أنظمة وشعوب تلك المنطقة التي بدلاً من أن تصنع مشروعها الخاص صارت تنضم إلى مشاريع الآخرين كأدوات وتوابع. ولم يعد أحد يخجل من هذا الاصطفاف المخجل. حتى ما يسمى بحركات المقاومة العربية راحت تتحالف مع الغازي الإيراني الذي يتفاخر باحتلال أربع عواصم عربية على الملأ. والسؤال البديهي: كيف تريد تحرير فلسطين بالتحالف مع من يحتل سوريا والعراق ولبنان واليمن والأحواز ويصول ويجول في أنحاء المنطقة بكل صفاقة؟ هل يعقل ذلك؟ لقد صار التغني بأمجاد الغزاة والمحتلين مفخرة لدى الكثير من العرب بعد أن صار القاصي والداني يتنافس على السيطرة على هذه المنطقة.
ما أشبه زمننا الآن بزمن الغساسنة والمناذرة الذين كانوا يتفاخرون بعمالتهم للروم والفرس في ذلك الزمان. ونحن نعرف أن حروباً طاحنة دارت بين تلك الدولتين العربيتين. وقد ذهب آلاف الضحايا لهذه الحروب من العرب، فقط خدمة لمصالح (الفرس أو الروم) ولم تكن تلك الدولتان سوى منظومتين وظيفيتين لأسيادهما «سواءٌ رَجَزَ شعراؤهما الشعر في الفخر، أو الحماسة في الفروسية والحرب».
الغساسنة سكنوا قرب حدود بلاد الشام الجنوبية واتخذوا مدينة بصرى الشام عاصمة لهم وكانوا موالين لدولة الروم واعتنقوا الديانة النصرانية لأجل تقربهم من الروم، وقد جعل الروم الغساسنة حراساً لهم على حدود الشام ضد غارات المناذرة حلفاء الفرس.
كيف تريد تحرير فلسطين بالتحالف مع من يحتل سوريا والعراق ولبنان واليمن والأحواز ويصول ويجول في أنحاء المنطقة بكل صفاقة؟
أما المناذرة فقد حكموا العراق واتخذوا الحيرة عاصمة لهم وكانوا حلفاء وحراساً للفرس وموالين لهم. وكان الملك فيهم مهما بلغ من السيادة والرفعة لا يعدو أن يكون عبداً لدى أسياده الروم أو الفرس، ومثال ذلك النعمان بن المنذر بن ماء السماء أعظم ملوك المناذرة والعرب في الجاهلية، حتى قال فيه النابغة الذبياني: فإنكَ شمس والملوكُ كواكبٌ، إذا طلعتْ لم يبدُ منهنّ كوكبُ.
كان هذا الملك المبجل عند العرب مجرد عبد وخادم لدى سيده كسرى الفرس، يدعوه فيستجب ويؤدى فروض الطاعة ويتذلل له.
ومن المحزن أن البعض صار يتحسر حتى على أيام الغساسنة والمناذرة عندما كان العرب يعملون أجراء لدى الروم والفرس، فاليوم انقسموا أكثر فأكثر وثاروا يتنافسون على خدمة كل من هب ودب، وكل من غزا بلادهم. وقد وصفهم أحد المعلقين بالذيول، لأن كل طرف منهم يوالي قوة معينة. ولو نظرت فقط إلى السوريين لوجدت أنهم تفوقوا على الغساسنة والمناذرة بمراحل ومراحل، وكذلك الأمر في العراق وليبيا واليمن ولبنان.
حتى «أبو رغال» لم يعد وحيداً في أيامنا هذه، فكم من حفيد له الآن، كما يجادل سمير حجاوي، بعضهم يعمل مع الأمريكيين والبعض الآخر مع الروس وآخرون مع الإيرانيين، وغيرهم مع البريطانيين والفرنسيين، حتى صار لكل قوم من هؤلاء «آباء رغالات».. جمع «أبو رغال» في كل بلد وزاوية، وهم لم يتبرعوا بأن يكون «أدلاء أذلاء، ولكنهم تجاوزا ذلك إلى التحريض على بعضهم البعض دون أن يعلموا أن الاحتماء بهذه الدولة أو تلك ليس حلاً مطلقاً ولا يزيدهم إلا تقزماً وذلاً وتبعية.
هل هناك يا ترى أي أمل على المدى المتوسط أو البعيد للخروج من هذه الدائرة المفرغة، أم إن المنطقة ستترحم حتى على أيام الغساسنة والمناذرة؟ على الأقل في ذلك الزمان لم يتبع العرب سوى القوتين المتصارعتين في ذلك الزمان الروم والفرس، بينما اليوم يتباهى شعب كل دولة عربية وخاصة دول الثورات بالاصطفاف إلى جانب هذا المحتل أو ذاك ويرى فيه المنقذ والمخلص، بينما المعروف تاريخياً أن الوحوش لا يمكن أن تنصف الفرائس بل تتناصفها.
كاتب واعلامي سوري