. مع تسلم محمد سالم ولد مرزوك مهامه وزيرا للداخلية، دخل في لقاءات مع مساعديه تحدث خلالها وبشكل مطول أحيانا عن الدور التنموي للوزارة والذي طغى عليه ـ حسب رأيه ـ دورها الأمني، كما طلب من أعوانه إعداد تقارير مفصلة عن قطاعاتهم والأوضاع في دوائرهم ورفعها إليه.
إلا أن المراقب لسلوك معالي الوزير يلحظ أنه بعد أشهر قليله من توليه منصبه خفت عنده نبرة الإصلاح وتراجع لديه الاهتمام بالشأن المهني في مقابل السياسي ...
رغم أهمية الدور المنوط بوزارة الداخلية في "معركة كوفيد19" لم يلمع اسم ولد مرزوك كأحد أبطال تلك المعركة على غرار بعض زملائه في الحكومة، كوزير الدفاع حنن ولد سيدي ووزير الصحة نذير ولد حامد ووزير التجارة سيد أحمد ولد محمد على سبيل المثال.
إلا أنه مما يثير الاستغراب حرص وزير الداخلية على خلق انطباع لدى الرأي العام بأنه ليس على انسجام مع الوزير الأول إسماعيل ولد بده! لنستحضر مثلا السياق الذي جاءت فيه رزمة التعيينات الخاصة بوزارة الداخلية والتي تأخرت كثيرا بالمقارنة مع بقية الوزارات وما رافق ذلك من حملة مستمرة في بعض المواقع الإلكترونية تردد أن سبب ذلك التأخير عائد إلى خلاف بين الوزير الأول ووزير الداخلية؛ لتخرج بعد ذلك لائحة التعيينات والتحويلات في بيان مجلس الوزراء وبإقصاء شبه تام للأطر المنحدرين من الجهة التي منها الوزير الأول في مقابل هيمنة ألئك المنحدرين من المناطق التي ينتمي لها وزير الداخلية... ليقدم الأمر على أنه انتصار باهر لمرزوك في المعركة وفي سياق متصل طالعتنا مؤخرا صحيفة "جون آفريك" بتغطية للشأن المحلي تصب في بعض جوانبها في نفس التوجه؛ خاصة أن صلتها ببعض الأطراف في نواكشوك معروفة لدى الكثيرين منا، هذا بالإضافة إلى أمور أخرى ليس هنا محل عرضها.
علق أحد الولاة المساعدين أمام زملائه بنوع من النقد الساخر على تلك التعيينات آنفة الذكر قائلا "إنها مليئة بالمتسليلن" كناية عن الوظائف التي تم شغلها بأشخاص من خارج القطاع.
إن التوجيه الوحيد الذي أخذه ولد مرزوك هو ما أعطاه الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بضرورة إشراك ما أمكن من لحراطين في تلك التعيينات، لكن ذلك التوجيه لم يشفع لأطر لحراطين المنحدرين من الجهة التي ينتمي لها الوزير الأول فكانوا أقل حظا من نظرائهم ممن يرتبطون جهويا أو قبليا بوزير الداخلية.
بات من المسلم به أن رئيس الجمهورية و الوزير الأول لا يتدخلان لأعضاء الحكومة وكبار الموظفين في تفاصيل المهام المسنودة لهم ويكتفيان في مقابل ذلك بتقييم نجاعة أدائهم، تلكم هي منهجية الرئيس غزواني في تسيير دفة الحكم، ف"غزواني مختلف" كما قال الإعلامي الحسن ولد مولاي أعل.
يقابل سلوك مرزوك غير الودي والذي يحرص على إظهاره اتجاه الوزير الأول ولد الشيخ سيديا بنوع من التجاهل والتصامم من الأخير وكأنما أراد بذلك تقديم وزير الداخلية على هيئة "دون كيشوت" هنا تقفز إلى الذهن جملة من التساؤلات منها: ما الدافع بشخصية بحجم وزير الداخلية إلى هذا السلوك؟ الذي جره إلى أمور من بينها الارتهان لمجموعة من المتنفذين كانت وما زالت تأخذ على نفسها مسؤولية حراسة القبلية و الجهوية داخل أروقة الداخلية!! تلك المجموعة التي تقاعد منها البعض مؤخرا وتم الاحتفاظ به بعقد عمل ومنهم من ينتظر، إن هيمنة حراس القبلية والجهوية على قرار وزارة الداخلية وضع العديد من الرجال الغير مناسبين والنساء الغير مناسبات في أماكن غير مناسبة كما وضع العديد من أطر الوزارة المميزين في بطالة مقنعة شبه دائمة وفي أحسن الأحوال في قاعدة السلم الوظيفي.
لا يخامرني شك أن مصارعة طواحين الهواء ليست من أولويات الرئيس غزواني بل همه الأول هو انتشال الدولة والمجتمع من مخلفات العشريات البائسة، كما أني على يقين من أنه يعي جيدا حجم التحديات والمخاطر التي تحيط به وبمشروعه ومن عز عليه إدراك هذا ليس قمنا بالبقاء ضمن الفريق الذي يدير هذه المرحلة الفارقة من حياة موريتانيا.
ولد مرزوك .. الأسئلة المحيرة
كتبت في الأسبوع الفائت مقالا قصيرا بعنوان: ولد مرزوك "دون كيشوت" المرحلةَ! ضمنته بعض الملاحظات على أداء وسلوك وزير الداخلية محمد سالم ولد مرزوك في الآونة الأخيرة، إلا أن الأمر لم يرق لأحد أصدقائي إذ جادلني مطولا في الموضوع، مستذكرا وبطريقة كرونولوجية ماضي الرجل، بدءا من أيامه في "حود" ثم اتحاد القوى الديمقراطية/ عهد جديد ثم الحزب الجمهوي الديمقراطي الاجتماعي ثم موقفه المناوئ للانقلاب على الرئيس المنتخب ولد الشيخ عبد الله إلى أن يذكر الدور المهم الذي له في الحزب الحاكم اليوم ولم ينس بالطبع استعراض الوظائف السامية التي تقلب فيها داخليا وفي الخارج بالإضافة إلى درجته العلمية المرموقة ورغم اتفاقي مع صاحبي في مجمل ما ذكر وتحفظي على بعض التفاصيل، لكنه لم يحاججني في ما جاء في المقال عن حاضر معالي الوزير.
ومع هذا فالسؤال الأهم هو: ما الدافع بشخصية لها من الرصيد ما لوزير الداخلية بالارتهان لأصحاب المشاريع المنتمية لما قبل الدولة (الجهوية، القبلية، الشرائحية) ؟ يجد هذا السؤال مشروعيته في ما سرد صديقي العزيز من السيرة الذاتية لمعالي الوزير.
قدمت النخب الموريتانية في الماضي و إلى اليوم مساهمات كبيرة في سبيل تأسيس الدولة الوطنية و العمل على تنميتها وتطويرها ـ مع بعض النواقص طبعا ـ وليس من رهان إلا على تلك النخب السياسية والثقافية من أجل تنوير المجتمع ـ رغم عناده ـ وتوعيته حول قضاياه الأساسية لإخراجه من شرنقة التخلف و ظلمات الجهل إلى نور العلم ورحابة التقدم وقد دفعت تلك النخبة الوطنية في سبيل كل ذلك أثمانا غالية من وقتها وجدها ومصالحها الخاصة التي هانت عليها في سبيل دولتها ومجتمعها.
لكن ما يحز في النفس اليوم هو التنامي المضطرد لمجموعات من الانتهازيين والطفيليين باتوا يتصدرون المشهد العام في بلادنا والغريب أن تلك المجموعات الوصولية وجدت لنفسها عضدا في طليعة من المثقفين لها سوابق نضالية تنتمي لمشارب فكرية وسياسية متعددة بتعدد الطيف الوطني ولا أعتقد أنه يمكن تمييز الوزير ولد مرزوك عن هذا النسق الأخير؟ إن المراقب لسلوك معالي الوزير في الآونة الأخيرة سيقف حائرا أمام قوة تماهيه مع أصحاب المشروعات القبلية، الجهوية، الشرائحية في وزارة الداخلية مثلا، على الرغم من أن أصحاب تلك التوجهات الضيقة كانوا يتوجسون خيفة أول الأمر من قدومه إلى وزارة الداخلية، خشية تقليمه أظافرهم، فهل كان توجسهم في محله؟
على الرغم مما يوفره لنا التحليل العلمي المكثف والمناسب للظواهر السياسية والاجتماعية إلا أن هناك بعض الحالات الخاصة في مجتمعنا كالتي بين أيدينا، يجد فيها المرء نفسه عاجزا عن فهمها وإدراك دوافعها، وليس أمامنا إلا مزيد من طرح الأسئلة علها تسعفنا في فهم هذا التهاوي الحثيث لبعض النخب المحلية: فهل كل ما تمسحت به تلك النخب في بداية انغماسها في الشأن العام من شعارات كبرى ليس إلا مطية للتسلق الطبقي وتحقيق مكاسب خاصة؟ وهل النخب السياسية بطبيعتها معرضة لفخاخ الخصوم لاستنزاف رصيدها وحرقها لأجل مراحل محددة؟ أم أن بريق السلطة وتأثيرها على تلك النخب أقوى مما نتصور؟ أم أن الواقعية السياسية هي ما دفع بالبعض منهم إلى الجثوم تحت أصحاب المشاريع القبلية الجهوية... مما كان له ارتداد على مستوى بنائهم الفوقي؟
يقول كاتب أمريكي ساخر "السياسيون مثل حفاظات الأطفال يجب تغيرهم باستمرار لنفس السبب"