الليل بهيم، والشوارع موحشة وموغلة في ظلام الرعب لا تخلو غياهبها من هوس اللصوص وعنتريات عصابات نواكشوط...، حيث كنت مع عثمان نسير في شارع النخيل في دار النعيم..
بدت شوارع دار النعيم ساكنة كئيبة، تضيئ فيها المصابيح بخجل وهي معلقة على واجهات بعض البيوت، فيما يغرق نصف الشارع في ظلام.
وشوارع دار النعيم شاحبة دوما كأنها تبكي في صمتها، كطفل ضربته أمه وعاقبته ان لا يصرخ، فجلس هناك في ركن كئيب وبات يجهش بحنجرة رقيقة، كي يوزع حزنه على الجدران.
بدت ملامح عثمان صارمة، ونحن منذ أيام لا نعرف عنه اكثر من كونه عثمان، الحارس الجديد، ولا شيئ آخر، حتى ملامحه لا نعرفها، فهو دوما ملثم، فهو من الطوارق، ومن عاداتهم شد الألثمة على الملامح.
عثمان يعرف ما يكفي للتواصل بالحسانية، لكنه يحبذ استعمال ثلاثة عبارات بإفراط:
- وافي ذاك – أباش نعدلو أتاي – خاظت من هون مرا زينه حتا.
كون عثمان "عجمي" وكون "الأعجام" يعرفون الحرب ومجابهة الشر، إضافة الى هيئته الغريبة في الملبس، وسيفه وعصاه، ومصباحه الليلي وموسيقاه الجميلة، كل ذلك شكل مفردات الأمان وإضافة مهمة لمجموعة الحراسة الليلية.
لا تزال دار النعيم مرعوبة من حرق جثة تاجر وقتل شاب، ومن قصص السطو والاغتصاب، ما اقتضى منا ان نخرج من البيوت للحراسة ليلا في مجموعات.
اتفق الجميع على دفع راتب لعثمان مقابل تقليل ساعات عملهم في المداومة الليلية، والليلة هي ليلته الرابعة في المنطقة.
**** **** *****
بدأنا جولتنا منذ قليل، وهو صديق ممل في الليل، لا يتحدث كثيرا وتضحكه كلمة: وهاي، ويكره كلمة: أعجل.. ويدخن "امنيجه" بنهم.
وكنت قد تذكرت حمدي مباشرة ورغبته في القبض على لصوص، عندما رأيت رجلين ضخمين متكبطين، يخرجان من شارع ضيق خلف مسجد التوبة -حيث تفتح نوافذ ثلاث منازل في حينا- قبل ان يصبحا مكشوفين في شارع النخيل.
كان الظلام يحجب التفاصيل، لكن في هذا الوقت تقريبا يتحرك ثلاثة فقط، دوريات الحرس والدرك وهي في سيارات، وحراس مثلنا، او لصوص.
في المنطقة نحن على علم بمن يتحرك، وهذا وقت مناوبتنا، فكيف بآخرين يتحركون.
قلت لعثمان:
- هل ترى ما أراه.
قال بحزم:
- نعم.. لنتقدم.. اذا كانوا لصوصا يجب ان نجهز عليهم.
قلت:
- توخ الحذر، ليس كل الأشخاص لصوصا، دعني أتحدث معهم أولا وكن منتبها سأعطيك إشارة.
قال بثبات:
- وافي ذاك.. (وحك ذقنه المدفون تحت اللثام).
**** **** *****
بشيئ من الذهول والحماس والخوف تلمست السيفة البرازيلية المخبأة تحت معطفي، طالما قلت انه يمكنك ان تحلق بها لحيتك فهي حادة كشفرة حلاقة.
حركت أقدامي في الحذاء الثقيل لألامس باصابعي مقدمته الحديدية الصلبة التي تكفي لتهشيم أي ساق ترتطم بها، وأمسكت المصباح واضعا اصبعي على مفتاحه وتهيأت.
وسرنا قدما في اتجاه ضيوف الليل..
في حالات كهذه، تبتعد عن رفيقك لمسافة متر تقريبا، تضع يدك على مقبض سلاحك، تحكم القبضة على المصباح، وتنهر القادمين بالتحية، واذا واجهت أي وضع مقلق، عليك ان تحرص على لسلامتك وسلامتك مرافقك، وان لا يختفي الآخرون عن اضاءة مصباحك، وان تعلم بقية الساهرين في بيوتهم، وان تطيل من فترة المطاردة، واذا واجهك أي شخص بعنف فعليك ان تضرب بقوة، فاذا ضربت فأوجع فإن العاقبة واحدة.
وانت لا تضرب لتقتل فذلك عمل الجبناء، تضرب لتعطل، او لتترك أثرا يمكنك التعرف على صاحبه في اسوء الأحوال.
كان الرجلان يتحركان بثقة، وكان واضحا ان أحدهما يحمل في يده سلة، وبعد لحظات صارا أمام مدرسة العدالة القابعة على شارع النخيل كقلعة لا كاسا غراندي في مسلسل ملحمة "تييرا د لوس لوبوس" وكنا في مواجهتهم تماما، وقلت في نفسي: أحد ما سيقط في مواجهة الليلة.
**** **** *****
نهر عثمان بشكل غير متوقع:
- هيه.. (بدى كعسكري يقف أمام تاماجور).
- السلام عليكم.. انتوم شغايسين واخباركم هون (قلت في حزم).
تراجع الرجلان البدينان وبدى انهما ايضا مسلحان، ورطنا بكلام لم أعرفه، فسحبت سيفتي دون تردد، وكذلك فعل عثمان، ولكنه خاطبهم بنفس اللهجة وبتشنج واصلا كلامهما، فأخرجت الهاتف وعيني على الشاشة وعين على غرباء الليل هؤلاء.
وفجأة.. بدأ عثمان يقهقه.. وقال بصوت سخيف:
- هاذو أعجام.
قلت في حزم:
- طيب.. وما الفرق..؟ ما ذا يفعلان في منطقتنا في هذا الوقت (بدى انني كنت اصرخ اكثر من اللازم).
ولم يطل بنا الوقت حتى كنا جميعا نسير معا في دورية واحدة، ثم عرجنا لنشرب الشاي امام أحد المنازل حيث جهزت المواعين و"حصيرة من لعصب".
اما سبب تواجد الرجلين فقصة أخرى، فقد قالت لعناد أننا دورية فاشلة لا قيمة لها، لا تنفع صديقا ولا تضر عدوا، وقررت دون علمنا مع جيران آخرين دفع راتب اثنين من الطوارق لزيادة تأمين المنازل في حينا الفقير المليئ بالفقراء واللصوص والدراويش، وقالت متفاخرة انها اخذت اثنين تتفاهم معهما بالاشارة، ولا يفهمان الا القضاء على اي لص يقترب من منزلها او من جيرانها، وقد تأكدنا من هذا الامر الجديد عبر الهاتف مع بعض الجيران، وكان واضحا اننا آخر من يعلم، وان هذا كان يصادف رغبة في نفس تلك المرأة الغريبة الأطوار.
السلة التي كان يحملها الرجل مليئة بـ "مندارين" قال انها تساعد في السهر، وهو يأكل منها واحدة بين الحين والآخر.
الألطف من كل هذا، ان جماعة الطوارق جلسوا يضحكون حتى وجعتهم بطونهم.
وعندما شعرت بالإستياء وسألت عثمان عن ما يقولونه، خصوصا بعد ان سمعت عبارة: هاوس كولن (اعتقد انها تنطق هكذا) فقد كنت تعلمت من تغطيتي لحرب شمال مالي انها تعني الرجل الأسود.
قال عثمان:
- لقد ظنو انك لص لانك طويل ومتكبط، ولكنهم فهموا بسرعة انني من الأعجام، والا لكانوا طاردوك في الشوارع.. ههههه هذا ما يضحكم.
**** **** *****
وأنا أحاول أن اتعايش مع سخريتهم واتصفح ملامحهم الجادة العابثة في ذات الوقت، مر أمام عيني عالم الطوارق كشريط متسلسل معتق بالتقاليد والفروسية والحسم، كما صوره ألبرتو باثكث فيكيروا في رائعته "الطوارق".
أخذت من عثمان كأس شاي ساخن، ولا زلنا هنا نتسامر حيث الليل بهيم، والشوارع موحشة، ونحن لا نتقن وسيلة للتواصل، غير ترجمة عثمان الضعيفة.
فضلا عن ذلك نحن لا نتشارك الكثير، فهؤلاء من أرض لم تعرف السلام منذ وقت طويل، وأنا من جيل لم يعرف الحرب.
بتصرف من صفحة الزميل الربيع ولد ادوم على فيسبوك
*العنوان الأصلي: هاوس كولن