نشعر بالزهو والفخر ونحن نرى الشعوب العربية تصنع مجدها وفجرها الجديد وتربط ما انقطع من هبات 2011 ليتابعوا مسيرة الوطن العربي نحو النهوض الشامل، بعد العثرات التي تعرض لها بسبب العساكر وأجهزة الأمن والتدخلات الخارجية والبترودولار. لقد بقينا على قناعتنا بأن الربيع العربي الذي بدأ من بلدة سيدي بوزيد في تونس وجرف أربعة طغاة، وهدد البقية الباقية بأنه قد يتعثر، لكنه لن يتوقف وسيعود بأشكال أخرى، بعضها عنيفة، وبعضها حضارية ما دامت الأسباب التي فجرت الانتفاضات الأولى باقية، وما دام زعماء الفساد والقهر والخنوع متمسكين بكراسيهم رغما عن إرادة شعوبهم ومستمرين في تزييف إرادتهم عبر انتخابات هزيلة أو إصلاحات شكلية، أو لجوء للحماية الخارجية. كل هذه المسكنات بدأت تتهاوى أمام حراك الشارع الغاضب، ولا حل إلا بالتغيير الجذري نحو دول الحرية والكرامة والمواطنة المتساوية تحت ظل القانون.
نشهد هذه الأيام انتفاضة كرامة تعم الشارع العربي من محيطه إلى خليجه، انطلقت هذه المرة من السودان وبدأت تعبر الحدود، فحطت رحالها في الجزائر، وانتقلت إلى بغداد، مرورا بعمان، ثم مرت من القاهرة رغم السنان المشرعة للاقتناص، ثم هبطت أخيرا في بلد الحرية والتعددية والمحاصصة الطائفية لبنان.
إذن إنه الربيع يتجدد في أكثر من عاصمة وبأكثر من شكل. تعددت الأشكال وتشابهت المطالب. الطغاة العرب محشورون في الزوايا. بعضهم لم يجد خيارا أمامه إلا القمع والقهر والسجون والاحتماء في أحضان الأغراب، وبعضهم أطلق الرصاص وبعضهم انصاع للمطالب ولو مؤقتا، ولكن الأجندة ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات.
شباب هذه الأمة يرفع صوته عاليا ضد أوطان أسيرة لطغمة فاسدة بغيضة، كتمت على أنفاس الشعوب، وضيقت هامش الحرية، وصادرت حقوق المواطن الأساسية وعاملت الشعب كأنه رعايا فقط مسؤوليته السمع والطاعة لولي الأمر، ونزلت بالهراوات على رؤوس من يعارضها مرة، وبالرصاص القاتل والمناشير والبراميل المتفجرة وحبال المشانق مرات. أنظمة بليدة متشابهة فرطت بالأرض والشرف ولم تحافظ على سيادة الوطن ووحدة أراضيه وافتعلت معارك مع إخوتها وجيرانها، وأقامت الاحتفالات ورقصت بالسيوف لمن دمروا الجار العربي، واستقبلت قتلة أطفال فلسطين والعرب في قصورها، وعزفت لهم نشيد الغزاة في ملاعبها.
الانتفاضة الحالية التي يمكن أن نسميها انتفاضة الكرامة بدأت ضد حكم البشير الفاسد. فبعد ثلاثين سنة في الحكم انفجر الشعب السوداني ضد من فتت البلاد وأهان العباد وخسر ربع مساحة البلد الأكبر في القارة الافريقية، مع انه كان يمكن أن يتجنب الانفصال. أشعل حرب دارفور فشرد الملايين وأحرق القرى ودمّر المجتمعات القبلية حتى وضع اسمه على قائمة مجرمي الحرب ورعاة الإرهاب. شوه اسم السودان والسودانيين، حتى أصبح جواز السفر السوداني، ربما الأسوأ في العالم مثل الأفغاني والصومالي. أفقر الناس ودمر مصادر رزقهم، ثم تاجر بالجنود ليرسلهم مرتزقة لدعم حرب آل سعود في اليمن وحفتر في ليبيا، ألا يستحق هذا الطاغية أن تنتفض عليه البلاد كلها. صرخات الشباب السوداني ما زالت متواصلة فقد شهدت العاصمة مليونية يوم الاثنين الماضي لاستكمال الثورة ومحاسبة القتلة، بعد أن أنجزت نصف المطالب، كان من أهمها رمي الطاغية في السجن.
الصرخة نفسها انطلقت من شباب الجزائر الذي لا يقبلون عمليات تجميلية لرموز النظام السابق، ولا يقبلون نصف إصلاحات ونصف تنازلات ونصف انتقال نحو الحكومة المدنية، التي يطل العسكر فيها من الشباك بدل الباب. لقد حاول العسكر، في إهانة لمشاعر الأمة، أن يمددوا لبوتفليقة للمرة الخامسة، لكن ذلك كان أكثر من أن يحتمل، لذلك خرجت الجزائر كلها لرفض التمديد والإصرار على ذلك، ولكن بطريقة حضارية منظمة، جعلت كل واحد منا يفتخر بالجزائر وشعبها العظيم. لقد أنجز هذا الحراك المرحلة الأولى من مطالبه، ولا نعتقد أن الشباب سيعودون إلى مهاجعهم إلا بتحقيق مطالب الثورة بالكامل، رغم أن أيادينا ما زالت على قلوبنا لأننا لا نثق بالعسكر والتجربة المصرية ما زالت حية في أذهاننا.
في عمان ظلت انتفاضة المعلمين صامدة إلى أن انصاعت الحكومة وعادوا إلى مدارسهم غانمين، بعد اعتذار من الحكومة. وفي بغداد تصدى الشباب بصدورهم للقتلة والقناصة، ولكنهم لم يتراجعوا إلا بعد أن انصاعت الحكومة (وإن كانت ليس موضع ثقة) إلى مطالب الشباب ووعدت بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبها رجال الأمن ضد المتظاهرين، وقدمت رزمة من الإصلاحات لو تحققت لأخرجت الملايين من تحت خط الفقر. هل يصدق أحد أن العراق الذي يصدر يوميا 3.800.000 برميل نفط يوميا لا يجد الناس فيه قوت يومهم.. إنه الفساد. هذه دولة الفساد التي ركّبها بريمر وسلمها لمجموعة من اللصوص الدوليين، الذين تربوا على أيادي الولايات المتحدة ونظام الملالي في إيران، فحولوا العراق الغني بأرضه وشعبه وكنوزه الطبيعية ونخيله وصناعاته وزراعته، إلى شبه دولة فاشلة احتلت الرقم 176 من مجموع 179 على سلم الفساد، ثم تحسنت أخيرا فهبطت إلى المرتبة 169.. ألا تستحق هذه الظروف الانتفاضة العارمة التي هزت البلاد من أقصاها إلى أدناها. ما زلنا ننتظر تحقيق المطالب ومحاكمة بعض اللصوص والقتلة.
لا بديل عن سيادة القانون لكل دولة تريد أن تنهض وتسير بثقة نحو التنمية الرشيدة
تتجسد انتفاضة الشباب العربي بشكل أجمل وأرقى في «لبنان الكرامة والشعب العنيد» وترفع شعارات «كلن يعني كلن» أي لا تستثني أحدا من رموز الفساد والمحاصصة الطائفية وهدر الأموال. لقد تميز الحراك اللبناني العابر للطوائف بشموليته وحضاريته وسلميته. لقد أذهلت المفاجأة السياسيين فلم يحسنوا التصرف وراح كل واحد يلقي اللوم على الآخرين وبعضهم لجأ إلى نوع من التهديد المبطن، بل استعمل بعضهم اللغة الساقطة في اتهام الخصوم. ومن المؤكد أن قرارات الحريري التي ألقاها لامتصاص النقمة، وتهدئة الشارع لم تقنع أحدا فتواصلت المسيرات الحاشدة في كافة أنحاء البلاد. نحن الآن نشهد ذروة الحراك ولا نريد أن نستبق الأحداث، ولكننا نثق بأن شباب لبنان لن يقبل بالمسكنات والوصفات الآنية، بل يريد حلولا جذرية لمشاكل مزمنة.
مطالب الشارع العربي الأساسية
نستطيع أن نلخص المطالب المشتركة للانتفاضات الشبابية بأربعة أساسية بدون الدخول في كثير من التفاصيل:
*أولا: تداول السلطة بطريقة سلمية: لقد اختارت الغالبية الساحقة من دول العالم قاطبة نظاما يتيح للمعارضة أن تصبح سلطة، وللسلطة أن تصبح معارضة لفترة زمنية يحددها الدستور، لا يستطيع أحد أن يتجاوزها. فالنظام العربي الملتزم بشعار رفعه وآمن به وطبقه وهو «من القصر إلى القبر»، انتهى وعفا عليه الزمن، ويجب أن ينتهي ولا حل إلا بالتداول السلمي للسلطة، ولنا في تونس النموذج الأجمل.
*ثانيا: سيادة القانون- في كل بلد هناك قوانين تحكم علاقات الناس ببعضهم وبالسلطة ويلتزم بها جميع أبناء البلاد، فكل كبير يصبح صغيرا، إذا ما طاله القانون حتى لو كان رئيس البلاد، وكل صغير يصبح كبيرا إذا ما كان القانون إلى جانبه. أما في الدول العربية فهناك نوعان من الناس: نوع فوق القانون مهما عمل واغتصب ونهب وسرق وخان وفرط، ونوع يطالهم القانون المفصل أصلا لملاحقتهم وإسكاتهم وزجهم في السجون. فلا بديل إذن عن سيادة القانون لكل دولة تريد أن تنهض وتسير بثقة نحو التنمية الرشيدة.
*ثالثا: إنهاء جماعات الفساد، لقد أصبح الفساد في الدول العربية مؤسسيا ولا يقتصر على الأفراد، بل انتشرت جماعات غسل الأموال والتهريب والاتجار بالبشر (كالمهاجرين) وبيع الآثار والصفقات المزورة والشركات الوهمية والعمولات الخيالية. لقد استشرى الفساد، بحيث عطل برامج التنمية وأهدر أموال البلاد على مشاريع وهمية ذهب ريعها إلى جيوب الفاسدين المحميين من النظام وزبانيته. هذا أحد أهم أسباب الانتفاضات، ولا بد من وضع حد لحيتان الفساد المحميين من السلطة.
*رابعا: المواطنة المتساوية، لقد ملّ الناس الحديث عن الطوائف والعقائد والأصول والأعراق والأقلية والأكثرية. لا حل لبناء دولة قوية إلا بالمواطنة المتساوية تماما بين كل أبناء الشعب بغض النظر عن أعراقهم وعقائدهم وألوانهم وجنسهم. يجب أن يثبت الدستور الموافق عليه جماعيا هذه المساواة، ثم يقوم القانون بحمايتها ويعاقب كل من ينتهكها.
هكذا تنهض الدول وهكذا يصبح كل مواطن فخورا بوطنه، وعلى استعداد أن يدفع عمره فداء له، لا أن يهرب منه ليدفع عمره لأمواج البحر المتوسط. عهد الطغيان بدأ يأفل وعصر الحرية والكرامة والفرص والمساواة والمستقبل الزاهر بدأ يبزغ. عقارب الساعة لن تدور إلى الوراء، ونحن بانتظار تعميم النموذج التونسي على الوطن العربي بكامله....
القدس العربي ..الإعلامي